الثلاثاء، 30 يناير 2024





 عندما أهداني الشاعر البهي شوقي ريغي روايته (الصدع) قبل فترة قلت في نفسي ها هو شاعر آخر جف ينبوع شعره أو سئم من ندرة الجوائز المجزية للشعراء بعد سن الأربعين فاتجه نحو الرواية ليتقعر أو (يتقوعر) بلغته الشعرية الجميلة في رواية مملة بطلها شاعر يظن نفسه مركز الكون لولا أن العالم ظلمه وأخطأ قياس المسافات، ليصنع لنفسه بقعة ضوء باهتة أو يحصل على جائزة خليجية سمينة.. رميتها جانبا إلى حين..

بعد أيام وفي مساء ممل قابلتني الرواية ففتحتها لأقرأ بضع صفحات.. ورغم براعة السرد ولغته الرشيقة ألقيت الرواية جانبا مرة أخرى قائلا: ألا يكفي أن البطل شاعر حتى تدور أحداث الرواية في فترة التسعينات؟ سيصدع رأسي بالخطابات اليسارية الخشبية والصورة النمطية للمثقف اليساري في مواجهة الصورة السطحية الساذجة للظلاميين الإسلاميين..
مرة أخرى قابلتني الرواية بعد أيام وأنا أهم بالخروج للعمل فقلت آخذها معي لتزجية الوقت و(الظلمة ولا وجوه الكلاب) كما قال القنفذ..
صفحة، اثنتان، ثلاثة.. بضع صفحات أخرى.. مهلا.. البطل ليس شاعرا ولو أنه ألصق جريرة الشعر بشخصية هامشية أخرى.. صفحات أخرى البطل ليس يساريا ولا كاتبا حتى.. لا تتلخص كل مشاكله في أن الظلاميين والمجتمع المتخلف لم يسمحوا له بممارسة الجنس مع حبيبته والسكر علنا ككل أبطال الروايات التي تحدثت عن تلك الفترة.. هو مجرد كائن شعبي -كما يقول مصعب- مفعول به كملايين الكائنات الشعبية هنا.. يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويدخن الزطلة المدرحة..
له فلسفته الخاصة التي تقع على الحد الفاصل بين العبثية والوجودية بل هي أحيانا أقرب إلى ال(contre philosophie).. تتجلى في بعدها عن المثالية والخطب الجوفاء والشعارات الرنانة.. يظهر عمقها وواقعيتها حين يواجه البطل مبادئه على محك الواقع، يتأرجح، يصمد مرة وينهار مرات، يصحو ضميره في الوقت المناسب أحيانا ومتأخرا جدا أحيانا أخرى..
يصر شوقي أن يجعله بطلا بدون بطولة حتى عندما أنقذ حاجز الدرك من انفجار السيارة الملغمة.. بطل ليس هو مركز الأحداث في الرواية بل يعيش أحداثها كبقية الشخوص مستسلما للتيار لولا أن تيار الأحداث لم يرحمه فيقوده من دوامة إلى أخرى أشد منها كل مرة..
هي أول رواية ربما تدخل المعسكر الآخر وتصور الإسلاميين كبشر يحبون ويكرهون، يخافون ويغضبون، يفرحون ويحزنون، لهم دوافع وأهداف، لهم ماض وحكايات وتفاصيل إنسانية كغيرهم، ليسوا مجرد فزاعات بسكاكين وبنادق لا تنطق إلا بعبارات معلبة (حرام، الذبح، القتل..) لم يولدوا كبارا ولم ينزلوا من الفضاء بل عجنت وتكونت ونمت شخصياتهم داخل هذا المجتمع..
يجيد شوقي شد القارئ بذكاء ومكر منذ الصفحات الأولى، يقفز بالزمن إلى الأمام والخلف من مقطع لآخر ليترك حبل التشويق والإثارة مشدودا بعد كل فاصلة أو نقطة فلا تكاد تنتبه لعدد صفحاتها الذي قارب الستمائة.. يتقن تأثيث مسرح الرواية ليكشف ما يدور خلف الجدران وفي أقبية الواجهات المزركشة للمدينة، قسنطينة الحقيقية التي لا تشاهدها في نشرة الثامنة وروايات العابرين وصور السياح، يصور تلك الفترة بحيرة وقلق وخوف من عايشوها حقا لا من منظور التاريخ، يصنع تفاصيل شخصياته بعناية فائقة ولا يجعلها مجرد مشاجب يعلق عليها حواراته أو رسائله.
في النهاية من العبث الحديث عن جمالية اللغة عند الحديث عن شاعر بحجم وبهاء شوقي ريغي، لغة أنيقة رشيقة سلسة إلى أقصى حدود السلاسة ترتقي لأعلى درجات الشاعرية في كثير من المقاطع دون تصنع أو تكلف، لم تتخلى عن شاعريتها إلا في بعض صفحات الربع الأخير حيث أصبحت صور الموت والدماء وحدها كافية لإثقال السرد وإتخام ذهن القارئ ولا تحتمل صورا بيانية سخيفة كمكياج على وجه قتيل أو دموع على وجه مهرج.

الشاعر رياض بوحجيلة

الأحد، 17 أبريل 2022

السبت، 18 يناير 2020

بقلم الإعلامي الصديق، زبير زهاني، يومية المساء

شوقي ريغي يضع مسعود أوزلماط أمام الجمهور

ثائر الأوراس الذي دوخ فرنسا 


استمتع الجمهور القسنطيني، مساء أول أمس، في إطار الاحتفالات برأس السنة الأمازيغية 2970، بمسرحية مسعود أوزلماط، التي أنتجتها دار الثقافة "مالك حداد"، وأخرجها أحمد حمامص، من تأليف شوقي ريغي، حيث وعلى مدار ساعة وربع الساعة من العرض، عاد الحضور إلى أسطورة مسعود بن زلماط أو مسعود أوزلماط، كما كان يشتهر بمنطقة الأوراس، والتي تشبه كثيرا قصة الأسطورة "روبن هود"، حيث أعلن مسعود الثورة على فرنسا بين سنتي 1917 و1921، بسبب القمع والاستبداد ودوخ قوات العدو طيلة 5 سنوات، وكان كابوسا أسود على المعمرين في هذه المنطقة.
المسرحية التي أعدتها أميرة دليو، والتي قدمها 9 ممثلين، على رأسهم بولمرقة السعيد، حمامص أحمد، كويرة حسين وبن عبد الرحمان حنان، حملت العديد من الرسائل، وتم من خلالها الاستعانة بديكور بسيط تمثل في خيمة، بئر وشجيرات، مع وجود شاشة في الخلفية، عرضت من خلالها مشاهد التعذيب والغارات الاستعمارية. كما جاءت المسرحية بلغة الدارجة المهذبة، حتى تصل إلى أكبر عدد من الجمهور، وضمت العديد من اللوحات والمشاهد الفولكلورية، التي تحتفي بخصوصيات المنطقة التي ينحدر منها البطل، الأوراس الأشم.
حسب المؤلف شوفي ريغي، رئيس فرع اتحاد الكتاب الجزائريين لمدينة قسنطينة، فإن هذه المسرحية، التي أطلق عليها أيضا عنوان "لصوص الشرف"، جاء نصها ليحكي قصة حياة فكرة، نموها وسط مناخ معين، وبطبيعة الحال، التأثيرات الخارجية التي تساهم في صقلها أو ربما تشويهها، ومن هنا يولد الصراع الدرامي فيها، أي بين النفسية المترددة المتشككة التي كانت تلازم البطل المسعود أوزلماط في البداية، والمسار الذي تسلكه لتبلغ تلك النفسية الواثقة المصممة، التي ينزل بحلولها الستار، مضيفا أن الصراع بين الشخصيات (القوي والضعيف) كان جانبيا، حتى وإن بدا أوضح، فهو صراع لا ينمو عبر مشاهد المسرحية، ولا يستقر على نهاية.
وحاول المؤلف والإعلامي شوقي ريغي ورئيس جمعية فاصلة الثقافية، أن يبرز القيمة الأدبية للمسرحية التي تبدأ من مقتل علي أوزلماط، شقيق البطل وطلبه للثأر، إلى لقائه بالفنان الخالد عيسى الجرموني، والذي، يضيف المؤلف، صحح برسائله الغنائية كثيرا من المفاهيم في ذهن البطل، ورسخ أخرى كان الشك يساوره حيالها، معتبرا أن هذه هي أولى رسائل العمل، التأكيد على دور الفنان في تحديد معالم النضال وصقلها، وكذا إعطائها الشرعية والشعبية، فمسعود بنهاية المسرحية لن يعود وحيدا كما بدأ، وهذا ما كان يريده، أن يؤمن مواطنوه بأنهم مسؤولون جميعا عن الحرية والأرض والأجيال القادمة.
حسب الشاعر، الروائي، والكاتب المسرحي شوقي ريغي، فإن الرسالة الثانية، للمسرحية ترمي إلى التوضيح بأن الحرية أغلى من الحب، وقد عبر عنها البطل، بأن أخلف وعده ولم يحول عرس محبوبته إلى مأتم، وكذلك أغلى من الانتقام، بما أن عرسها كان على ابن عدوه الأول، وأغلى من القوانين، ففي النهاية، يتراجع مسعود عن تطبيق القانون الذي سنه بنفسه، الحرية أغلى، لأنها الأصل، فلا حب ولا عدالة بلا حرية.

جريدة المساء تحتفي بلصوص الشرف


الاثنين، 1 يوليو 2019

كلمة ألقيت بمناسبة اليوم العالمي للعيش معا بسلام، بقاعة المحاضرات لقصر الثقافة مالك حداد قسنطينة الجزائر


بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسوله الكريم.
يسعدني أن أقف بينكم محاضرا أو شاعرا أو عوانا بين ذلك، في هذا اليوم الأغر من هذا الشهر الأغر، اليوم الدولي للعيش معا بسلام، يوم 16 ابريل الذي وافق هذه السنة اليوم 11 رمضان.
هذا اليوم الذي أعلنته الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب قرارها 72/130 يومًا عالميًا للعيش معًا في سلام، وأكدت أن يومًا كهذا هو السبيل لتعبئة جهود المجتمع الدولي لتعزيز السلام والتسامح والتضامن والتفاهم والتكافل، والإعراب عن رغبة أفراد المجتمع في العيش والعمل معًاً، متحدين على اختلافاتهم لبناء عالم أفضل.
هذا اليوم، الذي من حق كل جزائري أن يفتخر به ويعتز مهما كان لونه السياسي أو توجهه الثقافي أو طبقته الاجتماعية، فهو اليوم الذي صدّرنا فيه إلى العالم تجربة الجزائر، وعبرة أيام عصيبة عاشتها بلادنا قبل سنوات، خلاصتها أن الاختلاف الذي يبني الحضارات ويصنع مجد الأمم إذا كان قوامه، التكامل والتثاقف، والحوار، والتفتح هو نفسه قد يصير نقمة وكارثة كبرى إذا تحول إلى خلاف وقام على نبد الآخر، وشيطنته، والتقوقع بمعزل عنه.

لا يحتاج الإنسان إلى كثير من التأمل ليدرك قيمة الاختلاف في المجتمعات، فالاختلاف أصل الإبداع، ولولا اختلاف الفنانين والأدباء لما أنتجوا لنا الروائع الأدبية والتحف الفنية، لا يحتاج الإنسان إلى كثير من النظر ليدرك أن لا قيمة ليد كل أصابعها سبابات أو إبهامات، ولا تصلح سنة كل فصولها أربعة أو شتاءات، لا نحتاج إلى تفكير عميق لنعرف أي كائن كنا سنكون لو كانت كل أطرافنا قوائما، أو بعبارة أبسط، هل سيصلح فريق كرة لو كان كل لاعبيه حراس مرمى، حتى لو كانوا حراس مرمى جيدين، وهل ستصل السفينة لو كان كل طاقمها ربابين أو قباطنة مهرة؟
خلق الله الناس ببصمات أصابع مختلفة، وذبذبات صوتية تميز كل فرد، فلماذا نتقبل الاختلاف في أشكالنا وألواننا وأصواتنا، ومهننا ولا نتقبله في أفكارنا ومعتقداتنا مع إن اختلافي عنك فكريا هو ما يميزك، ويعطيك خصوصيتك، ولقاؤك بإنسان يفكر بطريقة مختلفة عنك، وينظر للأمور من زاوية مغايرة هو سبيلك الوحيد للنقد الذاتي الذي لا يتقدم الإنسان خطوة واحدة إلى الأمام في غيابه، وهو ما يقرر متى تلتزم بموقفك وتتمسك به، ومتى عليك أن تتراجع خطوة لتعيد مراجعة نفسك وحساباتك وآرائك.
وكما هو معلوم فإن الآراء والأحكام تثرى بالحوار والنقاش الهادئ وتعزز تبادل الأفكار والمعلومات وتستخدم المنطق والبرهان وتسلسل الحقائق، أما إذا تمترس حول احتكار الحقيقة يتحول الرأي إلى تعصب أعمى لا يرى أي طرف فيه إلا نفسه ويتحول النقاش إلى جدل عقيم.
يقول الحق عز وجل في محكم تنزيله بعد بسم الله الرحمن الرحيم «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير».
لقد لخصت هذه العبارة كل شيء، لتعارفوا، إنها الحكمة الإلهية التي خلقنا مختلفين لأجلها، وهذا ما ذهب إليه علماء الاجتماع، وأجمعوا عليه، إن الطريقة المثلى للتعامل مع الاختلاف والحؤول دون تحوله إلى خلاف وصراع وصدام وهذا ما لخصته الآية الكريمة، فعندما نعرف الآخر، ونفهم أسبابه ونستقصي ظروفه ونقاسمه أحلامه سننتهي بتقبله، والعكس صحيح، التحجر ورفض الآخر، والانغماس في الأنا هو سبب العداء والتطرف وكل المآسي التي شهدها ويشهدها العالم، فالعلم لا يلد الخطيئة، والمآسي لا تجيء من نسل المعرفة، بل الجهل، ومنه الجهل بالآخر هو سبب المآسي السابقة ويمكنني الجزم بالقول إنه سيكون سبب المآسي اللاحقة.
يقول الحق جل وعلا بعد بسم الله الرحمن الرحيم "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة." ويقول رسوله الكريم "اختلاف أمتي رحمة" ونحن في الجزائر نفتخر بأن بلدنا قارة فيه ما في الجغرافيا من تضاريس ومناخات، وهو قارة أيضا بتنوعه البشري والثقافي، ولو تعاملنا مع هذا التنوع البشري التعامل الصائب، ونظرنا إليه النظرة السليمة، لحققنا المعجزات بتكاملنا واجتماعنا حول الهدف الأسمى. وهذا ما أثبته التاريخ في العالم كله، والجزائر على وجه الخصوص.
لقد نجح الجزائريون في طرد المستعمرين على مر التاريخ عندما نسوا خلافاتهم والتفوا حول ما يجمعهم، ومنذ ماس اينيسا ويوبا ويوغرطا إلى العربي بن مهيدي وعميروش وسي الحواس، كان هذا الدرس الأكبر الذي حاول التاريخ أن يعلمنا إياه. وقد بدأت الثورات المسلحة في الجزائر منذ اللحظة التي وطئت فيها قدم أول مستدمر ترابها، ولم تتوقف إلى 1962 فلماذا فشلت جميعا فيما حققته ثورة نوفمبر؟
لا يوجد تفسيرات كثيرة لهذا الأمر، التفسير الوحيد هو أن الثورات السابقة كلها كانت جزئية جهوية شملت مناطق ومدنا دون أخرى، أما ثورة نوفمبر فقد هزت البلد من الشرق للغرب، ومن الشمال للجنوب، فكان النصر حليفها، وأضحت مرجعية عند الشعوب المناضلة من أجل حرياتها وكرامتها وتقرير مصيرها.
وقد فشلت الماركسية فشلا ذريعا في معاقل المجتمعات التي تبنتها، كالصين، والاتحاد السوفييتي، وهذا لأن الشيوعية الماركسية جاءت بخلاف سنة الله في خلقه فحاولت أن تجعل البشر على قلب رجل واحد، وهذا أمر لا يخدم التطور والرقي حيث قضت على المنافسة، وحطمت طموحات الذين يسعون للنجاح والتفوق، وساوت بين المجتهد المخلص والمتواكل الكسول، وحاولت أن تخنق الاختلاف وتضيق على سنة كونية وقانون حيوي، وهذا التضييق لم يكن سوى تمهيد لانفجارها وانهيارها.
الجزائر وبقدر ما هي بهية ومتألقة بشعبها وأرضها بقدر ما هي أمانة ثقيلة حملها الأجداد منذ ماسينيسا إلى العربي بن مهيدي على أكتافنا لنحافظ عليها وندفع بها قدما إلى مصاف الأمم العظيمة المزدهرة، ولتحقيق ها المسعى علينا أن نعتد بتنوعنا ولنضع نصب أعيننا أن اختلافاتنا مهما اتسعت وتعمقت فما يجمعنا ويوحدنا أكبر بكثير، تجمعنا الجزائر والمصير المشترك ودماء الشهداء وفلسطين الحبيبة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته


الاثنين، 18 سبتمبر 2017

الأربعاء، 17 أغسطس 2016

بين غضبتي حسن الأمراني, وليلى لعوير..

بين غضبتي حسن الأمراني, وليلى لعوير.
بقلم: شوقي ريغي.
غضبتان, هو الاسم الذي اختاره الاستاذان حسن الأمرّاني, وليلى لعوير لديوانهما المشترك, والذي يضمّ قصيدتين مطوّلتين, أولاهما اغضب للشاعر الدكتور  المغربي حسن الأمرّاني, وهو الاسم الشعري الغني عن كلّ تعريف, ويكفي أن نعدّد دواوينه التي بدأت تصدر تباعا منذ سنة 1974 حين أصدر ديوانه الأول (الحزن يزهر مرتين) وتتالت الأعمال الشعرية بعدها, مزامير 1975, القصائد السبع 1984, الزمان الجديد 1988, مملكة الرماد 1988, ثلاثية الغيب والشهادة 1989, سآتيك بالسيف والأقحوان 1995, وسيدة الأوراس 1995, وله في غير الشعر صولات, وجولات, وقد كان, ولا يزال رئيس تحرير مجلّة المشكاة, والتي تهتمّ بالأدب الإسلامي قديما, وحديثا.
أما القصيدة الثانية, فعنوانها, وغضبت, للشاعرة الجزائرية الدكتور ليلى لعوير, وهي علم بارز في خارطة الشعر الجزائري, والعربي, ولها الكثير من المؤلفات المنشورة, والمخطوطة, أوّلها مجموعة شعرية للأطفال صادرة عن دار الهدى سنة 1998 بعنوان " أناشيد على عزف الصغار", ثم ثورة الباهلي أوبرا شعرية (مخطوط), المدينة المغلقة أوبرا شعريّة (مخطوط), القدس في قلب محمّد أوبرا شعريّة للأطفال (مخطوط), هي الطفولة تنتصر أوبرا شعرية للأطفال (مخطوط), وقد شاركت مع مجموعة من الشعراء (ناصر لوحيشي, نور الدين درويش, ونذير طيار, وغيرهم), في كتابة ملحمة قسنطينة الشعرية, والتي عرضت في افتتاح تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015 , وسيكون القرّاء على موعد مع ديوانها (سجدات على جبين الاعتراف), والذي سيصدر إن شاء الله, في الأيام القريبة القادمة عن منشورات فاصلة.
هذا عن الكاتبين, أمّا عن الكتاب, فهو, عبارة عن مطوّلتين تمتدان على مساحة 96 صفحة, مع مقدّمة متأنية للدكتور الناقد محمد علي الرباوي, والقصيدتان على تفعيلة الكامل (متفاعلن), مع بعض التقاطعات التي يلتقطها السامع أحيانا مع التفعيلات القريبة, كالسريع, والكامل الأحذّ, فتمضي عفوية مرسلة, وأحيانا يقحمها الشاعران إقحاما, كما حدث في بداية قصيدة اغضب, التي مطلعها (الكامل الأحذ):
اغضبْ، وكنْ حمماً ونيرانا
لا عذرَ إن لم تغضب الآنا
اغضب! وإلا فلتكن حجراً
وتداً بظهر البيد.. ظلاّ زائلا..
كن ما تشاء.. فلستَ إنسانـا
إن أنت لم تغضبْ ولم تشربْ دماً بدمٍ
ولم تركب طريق أحبّةٍ
سبقوك للفردوس إسراراً وإعلانا
كتبت القصيدتان إبان الاعتداء الاسرائيلي الجائر على غزّة (8 جويلية-30 أوت 2014), والذي راح ضحيته أكثر من 2000 مدني فلسطيني, غالبيتهم أطفال, وسط صمت المجتمع الدولي وخاصة الأمم الكبرى التي شرعت بصمتها الجريمة الممنهجة التي يمارسها الكيان الصهيوني ضد العزل الأبرياء في غزة, وقد كتبت -القصيدتان- في زمنين مختلفين بما أنّ قصيدة الشاعرة هي نوع من المعارضة لقصيدة الأستاذ الأمرّاني, وقد عمل الشاعرين وسعهما حتى يظهر هذا, أوّلا بإدراج قصيدة الاستاذة ثانيةً عند تصفيف الديوان, وفي روح القصيدتين بما أنّ الأولى دعوة للغضب, وتبدأ بلفظ (اغضب), والثانية هي إجابة للدعوة, وتبدأ بلفظ (وغضبتُ), والإجابة تأتي دائما بعد الدعوة.
وقد حامت القصيدتين على رمز أبو عبد الله محمد الثاني عشر (1460 - 1527), المعروف أكثر بأبي عبد الله الصغير, ولو أنهما نظرا إليه بطريقة مختلفة, فالشاعرة تقمصت أبا عبد الله, ولبست نفسه المنكسرة المحطمة, وهو يسلم المفتاح أعداءَه.
ابك على ملك
توزع في الشعاب
امتد في عمر الرجولة
نسوة ملت كتاب
ومضت مع الأوهام
تنسج حلمها المدفون
دمعا لا يهاب
إني أبا عبد...
صغير
قد ضعت في ملكي الكبير
 أهديت فاطمة الوجع
 سلمتهم مفتاح مملكتي
 وسرت بلا ضمير...
...
وَسِرْتُ بِلاَ ضَمِيرْ
فِي وَادِ معْرَكَةِ العَبِيدْ
 أَوِ الأُسُودْ
لَعلَّنِي أحْمِي بَقَايَا مِنْ جَسَدْ
أما الشاعر, فلم ترضه الحقيقة التاريخية, ولم يركن لها, فقلب الواقع, ورفض تسليم مفاتيح المملكة, ليكبر أبو عبد الله الصغير, ويختار الامتثال لرغبة أمّه, ويتمسك بالمقاومة, والشهادة, على حساب الأمن, والحفاظ على حياته, ونجده يعبر عن ذلك أكثر من مرة,
3) داستْ على ظلّ الشهيدِ
فلولُ جيش منهكه
لم يسقط المفتاحُ من يدهِ
وفوق جبينهِ
ما قد تناثر
من غبار المعركه
وفي المقطع الخامس,
5) اغضب، حبيبي، واحذر الوهنا
مفتاح بيتك؟
ما يزال هــنا
كالشوق يعتنق البيوتَ،
ويحرس الوطنا
يتأمل المفتاح وهو معلّقٌ
كتوهج المصباحِ،
يحلم بالإياب، يحاصر الحزَنا
ويستمر كذلك إلى المقاطع الأخيرة, فيقول في المقطع الثالث عشر,
لا تسلم المفتاح يا مجنونَ أمّكَ.
لم تزل غرناطةٌ تبكي فتاها
ليس في غرناطةٍ قرميدةٌ
إلا وتهتفُ: بعتني!
وفي المقطع الرابع عشر (قبل الأخير), يقول
لن نُسلم المفتاحَ، يا غرناطة الشهداءِ،
وليرفع أميركِ – إن أراد – الراية البيضاءَ
قلبُ الأمّ لم يخطئ،
فخلّ متوّجا لم يحفظ الدرسا
عند هذا الحد يتوقّف الشبه بين القصيدتين, ويختلفان اختلافا كلّيا فيما عداه, ومن ذلك الاختلاف, الرقعة المسوّدة, فنفَس الشاعر كان أطول إذ قسم قصيدته إلى 15 مقطعا, ما سمح له بتغيير الموسيقى, والانغماس في حالات شعورية متجددة, وبالاسترسال لأنه كان ينطلق مع كل مقطع نفسا شعريا جديدا, فيصف تارة المقاوم, وتارة أم الشهيد, وأخرى حال الأسيرة, والطفل الذي يقاوم بالحجر, وحتى اليهودية التي ترفض جرائم الصهيوني البريطاني التي يرتكبها باسمها في الأرض المقدّسة, على عكس الشاعرة التي التزمت موسيقى واحدة في مقطع واحد من البداية للنهاية, وهذا ضيّق مجال المناورة لديها, وحدّ من حريتها في الطروح, كما في الموسيقى.
يبدأ الشاعر قصيدته بلفظ اغضب, وهي, صرخة موجهة إلى كلّ عربي, وكلّ مسلم, وكلّ واحد من دعاة السلام, وأنصاره في الأرض المعمورة, فالراحة الكبرى لا تنال إلى على جسر من التعب, وهو بذلك, يستثني ذاته في غالبية القصيدة, ويغيب أناه, ولا يلتفت إلى داخله إلا النزر اليسير, مثل قوله في المقطع التاسع,
9أحباب قلبي!
بالشهادة فزتمُ
من أين؟
من أين الطريق إليكمُ؟
الخوف يلجم خطونا
وسيوفنا مرهونةٌ
وفم الشعوب مكمّمُ
بينما تبدأ الشاعرة قصيدتها بلفظ (وغضبت), فهي, من البداية, تقحم نفسها في الحوادث, وتوجّه كلامها إلى الداخل, إلى الأنا, فتنكسر, وتتحطّم, وتسقط في خيبة الأمل, والرضا بمرارة الواقع, وحقيقة قصر اليد عن نجدة من يستغيثون.
إنها موجودة مع كل كلمة, وفاصلة,
أَنَا بَيْنَ طَيّاتِي لَئِيمٌ لَمْ أَزَلْ فِي القَيْدِ أَنْشُد ُصَحْوَتَكْ
أَنَا بَيْنَ طَيَّاتِي وُجُوهٌ لَمْ تَعُدْ تَحْمَرُّ مِنْ فَرْطِ الحيَاَءِ لِنُصْرَتِكْ
أَنَا مَنْ أَنَا غَيْرَ المَهَازِلِ تُشْتَرَى بِالذُّلِّ فِي قِمَمِ المَزَابِلِ مِنْ دَمِكْ
وللشاعرين أيضا أسلوبين مختلفين, فبينما تبدو قصيدة الأمراني شيخة, متأنية, حكيمة, تستجلب الرموز وتحاورها, وتتبع تفاصيلها بهدوء, وعمق, فهي, قصيدة مبنية, ومسبوكة من البداية إلى النهاية على خط واحد, من أجل الوصول إلى مدى محدد, وغاية بعينها, نجد أن قصيدة شاعرتنا, ليلى لعوير, على العكس, شبابية, متفاعلة, ثائرة إلى حدود الفوضوية, فهي باستمرار تلبس الرموز, ثم تلقيها, أو تستبدلها, إنها, تحاكي عنوانها, وغضبت, ولذا نرى معنوياتها ترتفع حينا, وتنكسر أحيانا, وتتحطم على صخور الواقع, وللغضب مثل هذا التأثير على الشعراء.
هذا بعض ممّا اختلف الشاعران عليه, واتفقا, ومقالي هذا, قطر من بحر, وسيطالع من يقرأ هذا الديوان أكثر مما قلت بكثير, وسيستمتع, أكيد, بنظرتين مختلفتين إلى كأس واحدة, كأس كتب الله أن يكون لها مذاق واحد, مرير, أمرّ من الزقوم, والغسلين, سنبكيها, ويبكيها الشعراء إلى أن يحقّ الله الحق, لأنها, أمّ معاركنا, وقضيتنا الوجوديّة, ومشكلتنا الأصلية.
إنها أم البدايات, كانت تسمّى فلسطين, وصارت تسمّى فلسطين.