الخميس، 4 فبراير 2016

لا شيء يستدعي ابتسامك.
بقلم شوقي ريغي.
عندما كانت 2015 تشرف على الأفول, وصلتني هذه المجموعة الشعرية, فتحتها على صفحة غير معيّنة لأقرأ, سيكون ليل دامسٌ في أرض يعرب ألفَ ذلّ أو يزيد.
وجدت نفسي أركض وراء الحروف, والنقاط, والفواصل, أقلب الصفحات وأغوص في العوالم الشعرية الساحرة, الآخذة, أسرح بين دقائق المعاني ولطائف التعابير, وأنا أردّد بين الفينة والأخرى يا لها من مفاجأة جميلة, إلى أن وصلت قوله,

كان اسمها خولة
وكان الخاتم المصلوب في اليسرى
كمشنقة تدلّى خافقي حوله.

بعدها كان الفهرس, أغلقت الكتاب, وقلت في نفسي, شاعر آخر سيكتب اسمه بحروف الذهب في سجل شعراء هذا الوطن, رياض بوحجيلة, سأتذكّر جيدا هذا الاسم, وأتمنى أن تتذكّروه, وإن حدث وصادفتم هذا الديوان على أحد رفوف المكتبات, فلا تتردّدوا في اقتنائه, لأنّكم لن تندموا, ولن تشعروا أنكم أنفقتم مالكم على سلعة كاسدة, كما هو حال كثير مما يعرض.
يذكرنا العنوان لا شيء يستدعي ابتسامك بمؤلَّف السعيد بوطاجين اللعنة عليكم جميعا, وصرخات في رماد لمحمد جعفارو, وتبا لكم لصليحة نعيجة, وكثير من العناوين التي تحاول الولوج إلى المتلقي من باب القسوة, والصدمة, أو ربما هو موقف الشعراء كافة في هذا العصر المادي, ويكاد يكون سمة مشتركة بينهم, هذه السوداوية القاتلة التي نستشفها ونحن نتتبع عناوين النصوص, خواطر عاطل عن الحلم, رؤيا في النصف الفارغ, دمعة أخرى وتقصم مهجتي, سبع وعشرون خريفا, رماد الأمنيات, وكأن التشاؤم, والانكسار, صار ختما على نفسية الشاعر الجزائري, ولن يتخلّص منه بسهولة.
تمتّد مجموعة (لا شيء يستدعي ابتسامك) على مسافة 23 عنوانا باحتساب الإهداء, يغلب عليها الطابع الحرّ (16 نصا), ثم العمود (5 نصوص), ونصّين مختلطين بين التركيبين العموديّ والحرّ, لا وجود للنثر, بل إن الموسيقى إحدى سمات الديوان الأبرز, موسيقى تحيلنا إلى الأجواء العراقية التي ولدت فيها القصيدة العربية الحديثة. 
الإيقاعات في هذا الديوان تأخذ النصيب الأكبر من إبداع الشاعر, وهو حجر نادر بالنسبة إلى محبي موسيقى الشعر, فهو يكتب عادة قصائده في حالة انفعال شديد, مما يلزمه استعمال موسيقى تحاكي انفعالاته, ثورته, حماسه, غضبه, خذلانه, ولأن غالبية قصائد هذا الديوان كتبت بين سنتي 2010 و2012, فقد واكبت بداية ما سمّي بالربيع العربي, وكان هذا الربيع ربيعا في عيني شاعرنا, فرقص له, وغنى, وتفاعل معه, ووسط الظلام الذي غلف أغلبية قصائده, كان الربيع العربي النافذة الوحيدة المشرعة للأمل على طول خط الديوان, فهو يهدي قصيدته رؤيا في النصف الفارغ إلى روح البوعزيزي,  ويحلم أن يكون حذاء في رجل شامي, ويبارك الليبيين على (الفتنة):

بوركت الفتنة
بورك موقظها
بورك من خاض مجاهلها
من ألّب من رتّب
من درّب من صوّب
من ألقى أوّل حجر في البركة
من قرّب عودا للنار
بورك من مسح حذاء الثوار

بل إنه يلعن من يستعملون عقولهم لحل خلافاتهم, يلعن دعاة السلام, والذين يقفون مترددين من إلقاء أنفسهم في مستنقعها:

ملعون في هاذي الفتنة من يحتار
ملعون من يسعى في إخماد مجامرها
ملعون من يدعو للعقل
وملعون من يدعو للحل السلمي لضبط النفس
ولأنه في حالة انفعال فهو واثق أن هذا الخيار سيشرق منه شيء جميل,
ستعم الأنوار
وتضيء الأرض سماء الله
ويطلع من قبو الجرذان نهار
بوركت الفتنة
بورك موقظها
بورك خائضها
ملعون من يسعى في إخماد النار

هذا الانفعال عند الشاعر حالة لا تصلح للكتابة, فالتجربة تقول إن الرؤية تختلف دائما بعدما يتحوّل إلى معاناة, ويتثقف بالسنوات, وينجلي زبد الوادي فنتبين ما يترسب في القعر, وحتى الواقع يقول هذا, فلو يكتب الشاعر عن ليبيا اليوم, لا أظن هذا يكون هذا موقفه, بل أعتقد من صميم القلب أنه سيقول:
ملعون في هذي الفتنة من يختار (بالخاء المعجمة), وستكون قصيدته على شاكلة,
سلام من صبا بردى أرق
ودمع لا يكفكف يا (طرابلس).
فمن الذي يرضيه ما يحدث في ليبيا اليوم, وهو لن يرضي الشاعر حتما.
هذا الانفعال هو الذي أنجب هذه الفقاعة موسيقية, المتفجرة الإيقاع, تصعد, وتنزل, محاولة مواكبة الثورة الواقعية على الأرض, لكننا إذ ننفض عنها الموسيقى لا نجد إلا خطابا حماسيا, وغضبا أعمى.
وشاعرنا قصاص بجدارة, هو يغوص في التفاصيل, ويغرق في الوصف,

ما زلت ألتهم الجرائد عند زاوية بمقهى الشارع الخلفيّ
ينضح بالقذارة والشيوخ العاطلين
وفتية سئموا الحديث عن الرياضة
أو مغازلة الصبايا العائدات من المدارس

بل إنه في كثيرا من النصوص يكون أقرب للقاص أو المسرحي منه إلى الشاعر, كما هو في قصيدة تأويل في النصف الملآن التي هي جزء ثان لنصه رؤيا في النصف الفارغ حيث يبدأ من نبوءة شيكسبيرية, يحشد الرموز, ويحجزها من البداية, ويهيئنا للدخول إلى هذا القادم, لكنه يستطرد في وصف الحال, والواقع, بلغة كهنوتية,

سيكون ليلا أسود الأقمار
يعبث في رؤى الجوعى
فيطعمهم ثمار العزة القعساء
يسقيهم خمور الفخر بالأجداد
والمجد التليد
وتتوه أنجمه
ولا راع ليوردها مخابئها ويخلي الأفق للفجر الجديد.

وهكذا يستمر الشاعر في مشاكسة القارئ وأخذه بعيدا في دنيا الواقع عن هذا الفجر الجديد, هذا المأمول, بعد ثلاثة عشر سطرا يلقي علينا بنبوءته, دفعة واحدة (ويوما, سيشرق ذلك الغلام على ظلمة الجب), يدفعها إلينا هكذا بمعناها الأول, وبالإيقاع أيضا, إذا يتحوّل من تفعيلة الكامل إلى تفعيلة المتقارب, وكم هو رشيق ومحبوب هذا التفاعل بين الإيقاع والمعنى, وشاعرنا بارع في هذا, وقصائده ثرية بالإيقاعات الحية والمتحركة وهو يشكل نموذجا خصبا للدارسين المتخصصين في موسيقى الشعر, لكنه هنا, يمنحنا انطباعا بأن هذه القصيدة كتبت على فترتين, للاختلاف الشديد في الموسيقى بين المقطعين الأول, والثاني, لكن هذه الهزة الإيقاعية لا توافقها هزة على مستوى الفكرة, إذ يكتفي الشاعر بوصف هذا المخلص الذي تحكي عنه النبوءة بنفس الطريقة التي كان يصف بها البيئة في المقطع الأول, حاجزا لنفسه مقعدا في انتظار (السوبرمان) الذي يشق حجاب الليالي, ويقرع ناقوس ثأر قديم, فتردّ عليه نواقيس آلاف من أتباعه الصدى, والذي سيقطف من أعين الشمس فجرا ليسرج للمتعبين الجهات, ويسكب للظامئين المدى, ويخلع قضبان كل الزنازن, وقد أهدى هذه القصيدة إلى البوعزيزي, رغم أنها كتبت قبل انتحاره حرقا باعتراف مدوّنٍ من الشاعر, فالمعني بالنبوءة ليس البوعزيزي, وإنما واحد يشبهه إلى درجة أنه يمكن أن يكون هو في ذلك الوقت, والشاعر الآن -بعد ست سنوات- هو إما في انتظار سوبرمان آخر, أو أن سوبرمانه قد مات.
نحن أيضا, في الصف الأخير من التلقي ننتظر من شاعرنا أن يكون هو السوبرمان, وهو المخلص, ونتمنى أن نراه في ديوانه القادم وراء الدفة, وفي الطليعة, والصفّ الأول,  لأنّ الشاعر هو من يبني الإنسان, والحضارات, وهو في هذا لا ينتظر أحدا.

في النهاية, أقول, ألف مبروك للشاعر بديوانه, وألف ألف مبروك للجزائر بشاعرها, المتألق, الواعد, رياض بوحجيلة.