الأربعاء، 17 أغسطس 2016

بين غضبتي حسن الأمراني, وليلى لعوير..

بين غضبتي حسن الأمراني, وليلى لعوير.
بقلم: شوقي ريغي.
غضبتان, هو الاسم الذي اختاره الاستاذان حسن الأمرّاني, وليلى لعوير لديوانهما المشترك, والذي يضمّ قصيدتين مطوّلتين, أولاهما اغضب للشاعر الدكتور  المغربي حسن الأمرّاني, وهو الاسم الشعري الغني عن كلّ تعريف, ويكفي أن نعدّد دواوينه التي بدأت تصدر تباعا منذ سنة 1974 حين أصدر ديوانه الأول (الحزن يزهر مرتين) وتتالت الأعمال الشعرية بعدها, مزامير 1975, القصائد السبع 1984, الزمان الجديد 1988, مملكة الرماد 1988, ثلاثية الغيب والشهادة 1989, سآتيك بالسيف والأقحوان 1995, وسيدة الأوراس 1995, وله في غير الشعر صولات, وجولات, وقد كان, ولا يزال رئيس تحرير مجلّة المشكاة, والتي تهتمّ بالأدب الإسلامي قديما, وحديثا.
أما القصيدة الثانية, فعنوانها, وغضبت, للشاعرة الجزائرية الدكتور ليلى لعوير, وهي علم بارز في خارطة الشعر الجزائري, والعربي, ولها الكثير من المؤلفات المنشورة, والمخطوطة, أوّلها مجموعة شعرية للأطفال صادرة عن دار الهدى سنة 1998 بعنوان " أناشيد على عزف الصغار", ثم ثورة الباهلي أوبرا شعرية (مخطوط), المدينة المغلقة أوبرا شعريّة (مخطوط), القدس في قلب محمّد أوبرا شعريّة للأطفال (مخطوط), هي الطفولة تنتصر أوبرا شعرية للأطفال (مخطوط), وقد شاركت مع مجموعة من الشعراء (ناصر لوحيشي, نور الدين درويش, ونذير طيار, وغيرهم), في كتابة ملحمة قسنطينة الشعرية, والتي عرضت في افتتاح تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015 , وسيكون القرّاء على موعد مع ديوانها (سجدات على جبين الاعتراف), والذي سيصدر إن شاء الله, في الأيام القريبة القادمة عن منشورات فاصلة.
هذا عن الكاتبين, أمّا عن الكتاب, فهو, عبارة عن مطوّلتين تمتدان على مساحة 96 صفحة, مع مقدّمة متأنية للدكتور الناقد محمد علي الرباوي, والقصيدتان على تفعيلة الكامل (متفاعلن), مع بعض التقاطعات التي يلتقطها السامع أحيانا مع التفعيلات القريبة, كالسريع, والكامل الأحذّ, فتمضي عفوية مرسلة, وأحيانا يقحمها الشاعران إقحاما, كما حدث في بداية قصيدة اغضب, التي مطلعها (الكامل الأحذ):
اغضبْ، وكنْ حمماً ونيرانا
لا عذرَ إن لم تغضب الآنا
اغضب! وإلا فلتكن حجراً
وتداً بظهر البيد.. ظلاّ زائلا..
كن ما تشاء.. فلستَ إنسانـا
إن أنت لم تغضبْ ولم تشربْ دماً بدمٍ
ولم تركب طريق أحبّةٍ
سبقوك للفردوس إسراراً وإعلانا
كتبت القصيدتان إبان الاعتداء الاسرائيلي الجائر على غزّة (8 جويلية-30 أوت 2014), والذي راح ضحيته أكثر من 2000 مدني فلسطيني, غالبيتهم أطفال, وسط صمت المجتمع الدولي وخاصة الأمم الكبرى التي شرعت بصمتها الجريمة الممنهجة التي يمارسها الكيان الصهيوني ضد العزل الأبرياء في غزة, وقد كتبت -القصيدتان- في زمنين مختلفين بما أنّ قصيدة الشاعرة هي نوع من المعارضة لقصيدة الأستاذ الأمرّاني, وقد عمل الشاعرين وسعهما حتى يظهر هذا, أوّلا بإدراج قصيدة الاستاذة ثانيةً عند تصفيف الديوان, وفي روح القصيدتين بما أنّ الأولى دعوة للغضب, وتبدأ بلفظ (اغضب), والثانية هي إجابة للدعوة, وتبدأ بلفظ (وغضبتُ), والإجابة تأتي دائما بعد الدعوة.
وقد حامت القصيدتين على رمز أبو عبد الله محمد الثاني عشر (1460 - 1527), المعروف أكثر بأبي عبد الله الصغير, ولو أنهما نظرا إليه بطريقة مختلفة, فالشاعرة تقمصت أبا عبد الله, ولبست نفسه المنكسرة المحطمة, وهو يسلم المفتاح أعداءَه.
ابك على ملك
توزع في الشعاب
امتد في عمر الرجولة
نسوة ملت كتاب
ومضت مع الأوهام
تنسج حلمها المدفون
دمعا لا يهاب
إني أبا عبد...
صغير
قد ضعت في ملكي الكبير
 أهديت فاطمة الوجع
 سلمتهم مفتاح مملكتي
 وسرت بلا ضمير...
...
وَسِرْتُ بِلاَ ضَمِيرْ
فِي وَادِ معْرَكَةِ العَبِيدْ
 أَوِ الأُسُودْ
لَعلَّنِي أحْمِي بَقَايَا مِنْ جَسَدْ
أما الشاعر, فلم ترضه الحقيقة التاريخية, ولم يركن لها, فقلب الواقع, ورفض تسليم مفاتيح المملكة, ليكبر أبو عبد الله الصغير, ويختار الامتثال لرغبة أمّه, ويتمسك بالمقاومة, والشهادة, على حساب الأمن, والحفاظ على حياته, ونجده يعبر عن ذلك أكثر من مرة,
3) داستْ على ظلّ الشهيدِ
فلولُ جيش منهكه
لم يسقط المفتاحُ من يدهِ
وفوق جبينهِ
ما قد تناثر
من غبار المعركه
وفي المقطع الخامس,
5) اغضب، حبيبي، واحذر الوهنا
مفتاح بيتك؟
ما يزال هــنا
كالشوق يعتنق البيوتَ،
ويحرس الوطنا
يتأمل المفتاح وهو معلّقٌ
كتوهج المصباحِ،
يحلم بالإياب، يحاصر الحزَنا
ويستمر كذلك إلى المقاطع الأخيرة, فيقول في المقطع الثالث عشر,
لا تسلم المفتاح يا مجنونَ أمّكَ.
لم تزل غرناطةٌ تبكي فتاها
ليس في غرناطةٍ قرميدةٌ
إلا وتهتفُ: بعتني!
وفي المقطع الرابع عشر (قبل الأخير), يقول
لن نُسلم المفتاحَ، يا غرناطة الشهداءِ،
وليرفع أميركِ – إن أراد – الراية البيضاءَ
قلبُ الأمّ لم يخطئ،
فخلّ متوّجا لم يحفظ الدرسا
عند هذا الحد يتوقّف الشبه بين القصيدتين, ويختلفان اختلافا كلّيا فيما عداه, ومن ذلك الاختلاف, الرقعة المسوّدة, فنفَس الشاعر كان أطول إذ قسم قصيدته إلى 15 مقطعا, ما سمح له بتغيير الموسيقى, والانغماس في حالات شعورية متجددة, وبالاسترسال لأنه كان ينطلق مع كل مقطع نفسا شعريا جديدا, فيصف تارة المقاوم, وتارة أم الشهيد, وأخرى حال الأسيرة, والطفل الذي يقاوم بالحجر, وحتى اليهودية التي ترفض جرائم الصهيوني البريطاني التي يرتكبها باسمها في الأرض المقدّسة, على عكس الشاعرة التي التزمت موسيقى واحدة في مقطع واحد من البداية للنهاية, وهذا ضيّق مجال المناورة لديها, وحدّ من حريتها في الطروح, كما في الموسيقى.
يبدأ الشاعر قصيدته بلفظ اغضب, وهي, صرخة موجهة إلى كلّ عربي, وكلّ مسلم, وكلّ واحد من دعاة السلام, وأنصاره في الأرض المعمورة, فالراحة الكبرى لا تنال إلى على جسر من التعب, وهو بذلك, يستثني ذاته في غالبية القصيدة, ويغيب أناه, ولا يلتفت إلى داخله إلا النزر اليسير, مثل قوله في المقطع التاسع,
9أحباب قلبي!
بالشهادة فزتمُ
من أين؟
من أين الطريق إليكمُ؟
الخوف يلجم خطونا
وسيوفنا مرهونةٌ
وفم الشعوب مكمّمُ
بينما تبدأ الشاعرة قصيدتها بلفظ (وغضبت), فهي, من البداية, تقحم نفسها في الحوادث, وتوجّه كلامها إلى الداخل, إلى الأنا, فتنكسر, وتتحطّم, وتسقط في خيبة الأمل, والرضا بمرارة الواقع, وحقيقة قصر اليد عن نجدة من يستغيثون.
إنها موجودة مع كل كلمة, وفاصلة,
أَنَا بَيْنَ طَيّاتِي لَئِيمٌ لَمْ أَزَلْ فِي القَيْدِ أَنْشُد ُصَحْوَتَكْ
أَنَا بَيْنَ طَيَّاتِي وُجُوهٌ لَمْ تَعُدْ تَحْمَرُّ مِنْ فَرْطِ الحيَاَءِ لِنُصْرَتِكْ
أَنَا مَنْ أَنَا غَيْرَ المَهَازِلِ تُشْتَرَى بِالذُّلِّ فِي قِمَمِ المَزَابِلِ مِنْ دَمِكْ
وللشاعرين أيضا أسلوبين مختلفين, فبينما تبدو قصيدة الأمراني شيخة, متأنية, حكيمة, تستجلب الرموز وتحاورها, وتتبع تفاصيلها بهدوء, وعمق, فهي, قصيدة مبنية, ومسبوكة من البداية إلى النهاية على خط واحد, من أجل الوصول إلى مدى محدد, وغاية بعينها, نجد أن قصيدة شاعرتنا, ليلى لعوير, على العكس, شبابية, متفاعلة, ثائرة إلى حدود الفوضوية, فهي باستمرار تلبس الرموز, ثم تلقيها, أو تستبدلها, إنها, تحاكي عنوانها, وغضبت, ولذا نرى معنوياتها ترتفع حينا, وتنكسر أحيانا, وتتحطم على صخور الواقع, وللغضب مثل هذا التأثير على الشعراء.
هذا بعض ممّا اختلف الشاعران عليه, واتفقا, ومقالي هذا, قطر من بحر, وسيطالع من يقرأ هذا الديوان أكثر مما قلت بكثير, وسيستمتع, أكيد, بنظرتين مختلفتين إلى كأس واحدة, كأس كتب الله أن يكون لها مذاق واحد, مرير, أمرّ من الزقوم, والغسلين, سنبكيها, ويبكيها الشعراء إلى أن يحقّ الله الحق, لأنها, أمّ معاركنا, وقضيتنا الوجوديّة, ومشكلتنا الأصلية.
إنها أم البدايات, كانت تسمّى فلسطين, وصارت تسمّى فلسطين.