الثلاثاء، 30 يناير 2024





 عندما أهداني الشاعر البهي شوقي ريغي روايته (الصدع) قبل فترة قلت في نفسي ها هو شاعر آخر جف ينبوع شعره أو سئم من ندرة الجوائز المجزية للشعراء بعد سن الأربعين فاتجه نحو الرواية ليتقعر أو (يتقوعر) بلغته الشعرية الجميلة في رواية مملة بطلها شاعر يظن نفسه مركز الكون لولا أن العالم ظلمه وأخطأ قياس المسافات، ليصنع لنفسه بقعة ضوء باهتة أو يحصل على جائزة خليجية سمينة.. رميتها جانبا إلى حين..

بعد أيام وفي مساء ممل قابلتني الرواية ففتحتها لأقرأ بضع صفحات.. ورغم براعة السرد ولغته الرشيقة ألقيت الرواية جانبا مرة أخرى قائلا: ألا يكفي أن البطل شاعر حتى تدور أحداث الرواية في فترة التسعينات؟ سيصدع رأسي بالخطابات اليسارية الخشبية والصورة النمطية للمثقف اليساري في مواجهة الصورة السطحية الساذجة للظلاميين الإسلاميين..
مرة أخرى قابلتني الرواية بعد أيام وأنا أهم بالخروج للعمل فقلت آخذها معي لتزجية الوقت و(الظلمة ولا وجوه الكلاب) كما قال القنفذ..
صفحة، اثنتان، ثلاثة.. بضع صفحات أخرى.. مهلا.. البطل ليس شاعرا ولو أنه ألصق جريرة الشعر بشخصية هامشية أخرى.. صفحات أخرى البطل ليس يساريا ولا كاتبا حتى.. لا تتلخص كل مشاكله في أن الظلاميين والمجتمع المتخلف لم يسمحوا له بممارسة الجنس مع حبيبته والسكر علنا ككل أبطال الروايات التي تحدثت عن تلك الفترة.. هو مجرد كائن شعبي -كما يقول مصعب- مفعول به كملايين الكائنات الشعبية هنا.. يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويدخن الزطلة المدرحة..
له فلسفته الخاصة التي تقع على الحد الفاصل بين العبثية والوجودية بل هي أحيانا أقرب إلى ال(contre philosophie).. تتجلى في بعدها عن المثالية والخطب الجوفاء والشعارات الرنانة.. يظهر عمقها وواقعيتها حين يواجه البطل مبادئه على محك الواقع، يتأرجح، يصمد مرة وينهار مرات، يصحو ضميره في الوقت المناسب أحيانا ومتأخرا جدا أحيانا أخرى..
يصر شوقي أن يجعله بطلا بدون بطولة حتى عندما أنقذ حاجز الدرك من انفجار السيارة الملغمة.. بطل ليس هو مركز الأحداث في الرواية بل يعيش أحداثها كبقية الشخوص مستسلما للتيار لولا أن تيار الأحداث لم يرحمه فيقوده من دوامة إلى أخرى أشد منها كل مرة..
هي أول رواية ربما تدخل المعسكر الآخر وتصور الإسلاميين كبشر يحبون ويكرهون، يخافون ويغضبون، يفرحون ويحزنون، لهم دوافع وأهداف، لهم ماض وحكايات وتفاصيل إنسانية كغيرهم، ليسوا مجرد فزاعات بسكاكين وبنادق لا تنطق إلا بعبارات معلبة (حرام، الذبح، القتل..) لم يولدوا كبارا ولم ينزلوا من الفضاء بل عجنت وتكونت ونمت شخصياتهم داخل هذا المجتمع..
يجيد شوقي شد القارئ بذكاء ومكر منذ الصفحات الأولى، يقفز بالزمن إلى الأمام والخلف من مقطع لآخر ليترك حبل التشويق والإثارة مشدودا بعد كل فاصلة أو نقطة فلا تكاد تنتبه لعدد صفحاتها الذي قارب الستمائة.. يتقن تأثيث مسرح الرواية ليكشف ما يدور خلف الجدران وفي أقبية الواجهات المزركشة للمدينة، قسنطينة الحقيقية التي لا تشاهدها في نشرة الثامنة وروايات العابرين وصور السياح، يصور تلك الفترة بحيرة وقلق وخوف من عايشوها حقا لا من منظور التاريخ، يصنع تفاصيل شخصياته بعناية فائقة ولا يجعلها مجرد مشاجب يعلق عليها حواراته أو رسائله.
في النهاية من العبث الحديث عن جمالية اللغة عند الحديث عن شاعر بحجم وبهاء شوقي ريغي، لغة أنيقة رشيقة سلسة إلى أقصى حدود السلاسة ترتقي لأعلى درجات الشاعرية في كثير من المقاطع دون تصنع أو تكلف، لم تتخلى عن شاعريتها إلا في بعض صفحات الربع الأخير حيث أصبحت صور الموت والدماء وحدها كافية لإثقال السرد وإتخام ذهن القارئ ولا تحتمل صورا بيانية سخيفة كمكياج على وجه قتيل أو دموع على وجه مهرج.

الشاعر رياض بوحجيلة