الأربعاء، 17 أغسطس 2016

بين غضبتي حسن الأمراني, وليلى لعوير..

بين غضبتي حسن الأمراني, وليلى لعوير.
بقلم: شوقي ريغي.
غضبتان, هو الاسم الذي اختاره الاستاذان حسن الأمرّاني, وليلى لعوير لديوانهما المشترك, والذي يضمّ قصيدتين مطوّلتين, أولاهما اغضب للشاعر الدكتور  المغربي حسن الأمرّاني, وهو الاسم الشعري الغني عن كلّ تعريف, ويكفي أن نعدّد دواوينه التي بدأت تصدر تباعا منذ سنة 1974 حين أصدر ديوانه الأول (الحزن يزهر مرتين) وتتالت الأعمال الشعرية بعدها, مزامير 1975, القصائد السبع 1984, الزمان الجديد 1988, مملكة الرماد 1988, ثلاثية الغيب والشهادة 1989, سآتيك بالسيف والأقحوان 1995, وسيدة الأوراس 1995, وله في غير الشعر صولات, وجولات, وقد كان, ولا يزال رئيس تحرير مجلّة المشكاة, والتي تهتمّ بالأدب الإسلامي قديما, وحديثا.
أما القصيدة الثانية, فعنوانها, وغضبت, للشاعرة الجزائرية الدكتور ليلى لعوير, وهي علم بارز في خارطة الشعر الجزائري, والعربي, ولها الكثير من المؤلفات المنشورة, والمخطوطة, أوّلها مجموعة شعرية للأطفال صادرة عن دار الهدى سنة 1998 بعنوان " أناشيد على عزف الصغار", ثم ثورة الباهلي أوبرا شعرية (مخطوط), المدينة المغلقة أوبرا شعريّة (مخطوط), القدس في قلب محمّد أوبرا شعريّة للأطفال (مخطوط), هي الطفولة تنتصر أوبرا شعرية للأطفال (مخطوط), وقد شاركت مع مجموعة من الشعراء (ناصر لوحيشي, نور الدين درويش, ونذير طيار, وغيرهم), في كتابة ملحمة قسنطينة الشعرية, والتي عرضت في افتتاح تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015 , وسيكون القرّاء على موعد مع ديوانها (سجدات على جبين الاعتراف), والذي سيصدر إن شاء الله, في الأيام القريبة القادمة عن منشورات فاصلة.
هذا عن الكاتبين, أمّا عن الكتاب, فهو, عبارة عن مطوّلتين تمتدان على مساحة 96 صفحة, مع مقدّمة متأنية للدكتور الناقد محمد علي الرباوي, والقصيدتان على تفعيلة الكامل (متفاعلن), مع بعض التقاطعات التي يلتقطها السامع أحيانا مع التفعيلات القريبة, كالسريع, والكامل الأحذّ, فتمضي عفوية مرسلة, وأحيانا يقحمها الشاعران إقحاما, كما حدث في بداية قصيدة اغضب, التي مطلعها (الكامل الأحذ):
اغضبْ، وكنْ حمماً ونيرانا
لا عذرَ إن لم تغضب الآنا
اغضب! وإلا فلتكن حجراً
وتداً بظهر البيد.. ظلاّ زائلا..
كن ما تشاء.. فلستَ إنسانـا
إن أنت لم تغضبْ ولم تشربْ دماً بدمٍ
ولم تركب طريق أحبّةٍ
سبقوك للفردوس إسراراً وإعلانا
كتبت القصيدتان إبان الاعتداء الاسرائيلي الجائر على غزّة (8 جويلية-30 أوت 2014), والذي راح ضحيته أكثر من 2000 مدني فلسطيني, غالبيتهم أطفال, وسط صمت المجتمع الدولي وخاصة الأمم الكبرى التي شرعت بصمتها الجريمة الممنهجة التي يمارسها الكيان الصهيوني ضد العزل الأبرياء في غزة, وقد كتبت -القصيدتان- في زمنين مختلفين بما أنّ قصيدة الشاعرة هي نوع من المعارضة لقصيدة الأستاذ الأمرّاني, وقد عمل الشاعرين وسعهما حتى يظهر هذا, أوّلا بإدراج قصيدة الاستاذة ثانيةً عند تصفيف الديوان, وفي روح القصيدتين بما أنّ الأولى دعوة للغضب, وتبدأ بلفظ (اغضب), والثانية هي إجابة للدعوة, وتبدأ بلفظ (وغضبتُ), والإجابة تأتي دائما بعد الدعوة.
وقد حامت القصيدتين على رمز أبو عبد الله محمد الثاني عشر (1460 - 1527), المعروف أكثر بأبي عبد الله الصغير, ولو أنهما نظرا إليه بطريقة مختلفة, فالشاعرة تقمصت أبا عبد الله, ولبست نفسه المنكسرة المحطمة, وهو يسلم المفتاح أعداءَه.
ابك على ملك
توزع في الشعاب
امتد في عمر الرجولة
نسوة ملت كتاب
ومضت مع الأوهام
تنسج حلمها المدفون
دمعا لا يهاب
إني أبا عبد...
صغير
قد ضعت في ملكي الكبير
 أهديت فاطمة الوجع
 سلمتهم مفتاح مملكتي
 وسرت بلا ضمير...
...
وَسِرْتُ بِلاَ ضَمِيرْ
فِي وَادِ معْرَكَةِ العَبِيدْ
 أَوِ الأُسُودْ
لَعلَّنِي أحْمِي بَقَايَا مِنْ جَسَدْ
أما الشاعر, فلم ترضه الحقيقة التاريخية, ولم يركن لها, فقلب الواقع, ورفض تسليم مفاتيح المملكة, ليكبر أبو عبد الله الصغير, ويختار الامتثال لرغبة أمّه, ويتمسك بالمقاومة, والشهادة, على حساب الأمن, والحفاظ على حياته, ونجده يعبر عن ذلك أكثر من مرة,
3) داستْ على ظلّ الشهيدِ
فلولُ جيش منهكه
لم يسقط المفتاحُ من يدهِ
وفوق جبينهِ
ما قد تناثر
من غبار المعركه
وفي المقطع الخامس,
5) اغضب، حبيبي، واحذر الوهنا
مفتاح بيتك؟
ما يزال هــنا
كالشوق يعتنق البيوتَ،
ويحرس الوطنا
يتأمل المفتاح وهو معلّقٌ
كتوهج المصباحِ،
يحلم بالإياب، يحاصر الحزَنا
ويستمر كذلك إلى المقاطع الأخيرة, فيقول في المقطع الثالث عشر,
لا تسلم المفتاح يا مجنونَ أمّكَ.
لم تزل غرناطةٌ تبكي فتاها
ليس في غرناطةٍ قرميدةٌ
إلا وتهتفُ: بعتني!
وفي المقطع الرابع عشر (قبل الأخير), يقول
لن نُسلم المفتاحَ، يا غرناطة الشهداءِ،
وليرفع أميركِ – إن أراد – الراية البيضاءَ
قلبُ الأمّ لم يخطئ،
فخلّ متوّجا لم يحفظ الدرسا
عند هذا الحد يتوقّف الشبه بين القصيدتين, ويختلفان اختلافا كلّيا فيما عداه, ومن ذلك الاختلاف, الرقعة المسوّدة, فنفَس الشاعر كان أطول إذ قسم قصيدته إلى 15 مقطعا, ما سمح له بتغيير الموسيقى, والانغماس في حالات شعورية متجددة, وبالاسترسال لأنه كان ينطلق مع كل مقطع نفسا شعريا جديدا, فيصف تارة المقاوم, وتارة أم الشهيد, وأخرى حال الأسيرة, والطفل الذي يقاوم بالحجر, وحتى اليهودية التي ترفض جرائم الصهيوني البريطاني التي يرتكبها باسمها في الأرض المقدّسة, على عكس الشاعرة التي التزمت موسيقى واحدة في مقطع واحد من البداية للنهاية, وهذا ضيّق مجال المناورة لديها, وحدّ من حريتها في الطروح, كما في الموسيقى.
يبدأ الشاعر قصيدته بلفظ اغضب, وهي, صرخة موجهة إلى كلّ عربي, وكلّ مسلم, وكلّ واحد من دعاة السلام, وأنصاره في الأرض المعمورة, فالراحة الكبرى لا تنال إلى على جسر من التعب, وهو بذلك, يستثني ذاته في غالبية القصيدة, ويغيب أناه, ولا يلتفت إلى داخله إلا النزر اليسير, مثل قوله في المقطع التاسع,
9أحباب قلبي!
بالشهادة فزتمُ
من أين؟
من أين الطريق إليكمُ؟
الخوف يلجم خطونا
وسيوفنا مرهونةٌ
وفم الشعوب مكمّمُ
بينما تبدأ الشاعرة قصيدتها بلفظ (وغضبت), فهي, من البداية, تقحم نفسها في الحوادث, وتوجّه كلامها إلى الداخل, إلى الأنا, فتنكسر, وتتحطّم, وتسقط في خيبة الأمل, والرضا بمرارة الواقع, وحقيقة قصر اليد عن نجدة من يستغيثون.
إنها موجودة مع كل كلمة, وفاصلة,
أَنَا بَيْنَ طَيّاتِي لَئِيمٌ لَمْ أَزَلْ فِي القَيْدِ أَنْشُد ُصَحْوَتَكْ
أَنَا بَيْنَ طَيَّاتِي وُجُوهٌ لَمْ تَعُدْ تَحْمَرُّ مِنْ فَرْطِ الحيَاَءِ لِنُصْرَتِكْ
أَنَا مَنْ أَنَا غَيْرَ المَهَازِلِ تُشْتَرَى بِالذُّلِّ فِي قِمَمِ المَزَابِلِ مِنْ دَمِكْ
وللشاعرين أيضا أسلوبين مختلفين, فبينما تبدو قصيدة الأمراني شيخة, متأنية, حكيمة, تستجلب الرموز وتحاورها, وتتبع تفاصيلها بهدوء, وعمق, فهي, قصيدة مبنية, ومسبوكة من البداية إلى النهاية على خط واحد, من أجل الوصول إلى مدى محدد, وغاية بعينها, نجد أن قصيدة شاعرتنا, ليلى لعوير, على العكس, شبابية, متفاعلة, ثائرة إلى حدود الفوضوية, فهي باستمرار تلبس الرموز, ثم تلقيها, أو تستبدلها, إنها, تحاكي عنوانها, وغضبت, ولذا نرى معنوياتها ترتفع حينا, وتنكسر أحيانا, وتتحطم على صخور الواقع, وللغضب مثل هذا التأثير على الشعراء.
هذا بعض ممّا اختلف الشاعران عليه, واتفقا, ومقالي هذا, قطر من بحر, وسيطالع من يقرأ هذا الديوان أكثر مما قلت بكثير, وسيستمتع, أكيد, بنظرتين مختلفتين إلى كأس واحدة, كأس كتب الله أن يكون لها مذاق واحد, مرير, أمرّ من الزقوم, والغسلين, سنبكيها, ويبكيها الشعراء إلى أن يحقّ الله الحق, لأنها, أمّ معاركنا, وقضيتنا الوجوديّة, ومشكلتنا الأصلية.
إنها أم البدايات, كانت تسمّى فلسطين, وصارت تسمّى فلسطين.
      

الجمعة، 6 مايو 2016

السؤال المطروح, بقلم شوقي ريغي


هل نجحت قسنطينة في أن تكون عاصمة للثقافات العربية؟ وما هي معالم هذا النجاح؟ وهل فشلت؟ وما هي معالم هذه الفشل؟
سؤال لن أجيب عنه.
أذكر, في البداية, تساءل بعضهم, لماذا قسنطينة, وليس مدينة أخرى؟ وكان الجواب الجاهز, لتاريخها الضارب في القدم, لأنها مهد جمعية العلماء المسلمين, لأنها المدينة العربية التي خلدها الأدباء في كتاباتهم أكثر من أيّ مدينة أخرى باستثناء القدس العاصمة الأبدية للثقافة العربية, لأنها المدينة ذات الجغرافيا الساحرة, بموقعها على الصخرة, وجسورها وهندستها, وأيضا, لأنّ قسنطينة كانت منذ الاستقلال المدينة الأقلّ حظّا في مشاريع التنمية, والتوسعة, والتهيئة, قياسا بعواصم البلاد الأخرى.
من البداية أيضا حاولت بعض الأطراف تكسير التظاهرة, وعرقلتها بكلّ الطرق, اخترع الشعار الموازي "قسنطينة عاصمة الثقافة الأمازيغية", وكثر التساؤل عن الجدوى, والفائدة من هذه التظاهرة, ومثيلاتها, إن لم يكن تبذير المال العام من أجل (الشطيح, والرديح)؟
هل فشلت التظاهرة؟
كثيرون كانت لهم التظاهرة فرصة ليثبتوا أنهم على قدر المسؤولية, لا أتكلم عن أشخاص بعينهم, لكنّي لاحظت كما لاحظ القسنطينيون أن الساحة المهجورة (لابريش) والتي ظلت لعقود وكرا للفساد يحتلها الآن فندقان محترمان, وفي ظرف قياسي شيّد لأوّل مرّة فندق خمس نجوم, وشيدت العديد من المنجزات الثقافية على رأسها قاعة الزينيت, وأعيد ترميم قصر الباي, وكثير من البنايات التاريخية, وعبدت الأرصفة, وركبت الكاميرات في مفترقات الطرق الرئيسية, ولن ينكر أحد أن التغيير الذي طرأ على قسنطينة في السنتين الأخيرتين يعادل أو يتجاوز ما أنجز منذ الاستقلال أو قبل ذلك.
كانت هناك حفلات راقية, وأخرى أقل رقيا, عروض مسرحية جيدة, وأخرى أقل جودة, ملتقيات, وندوات قيمة, وأخرى أقل قيمة, وفي هذه السنة رأى القسنطينيون لأول مرة معارض للكتاب في الهواء الطلق في ساحتي (لابريش), والجامعة المركزية.
ثم إن المدينة ربحت هذا اللقب الذي سيرتبط باسمها لسنوات أو عقود بعد اليوم, فلماذا يتحدثون عن الفشل, لقد ربحت قسنطينة كثيرا من الأشياء  الجيدة, خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار ضيق الزمن الذي حضر فيه لاستقبال التظاهرة, فهل نستطيع أن نقول أن التظاهرة نجحت؟
منذ البداية أيضا, أعطى كثيرون ظهرهم للحدث, وأعلنوا, أو أضمروا المقاطعة, وبيتوا لها وتآمروا عليها, والمؤلم في الأمر أن غالبيتهم كانوا ممن يحسبون عليها.
كثير من الانتهازيين الذين سمعناهم ينعقون كالغربان المشؤومة, ينتقدون كلّ شيء, وكلّ الناس, وفي الأخير سكتوا تماما ما أسندت إليهم أدوار, هم معروفون لدى الداني, والقاصي, وموجودون في كل مكان, ولا مجال للحديث عنهم الآن.
أذكر أني حضرت نشاطا في إطار جولة الشاعر التونسي الكبير منصف المزغنّي, واندهشت عندما دخلت قاعة محمد العيد آل خليفة, ولم أجد إلا السيد نور الدين بوقندورة مدير الثقافة للولاية, والشاعر, وحيدين, ولا أحد غيرهما, وهو, منصف المزغني, والذي احتفي به في كلّ الولايات التي زارها لم ينشط أمسيته في عاصمة الثقافة العربية بالتحديد.
وهل هي مصادفة أن تجمد جائزة, مثل جائزة العلامة عبد الحميد بن باديس في هذه السنة تحديدا؟ والتي كان سنويا يرعاها المجلس الشعبي الولائي, والتي قيل في البداية أنها ستكون هذه السنة بصبغة عربية.
ولماذا تبخر مشروع ألف وخمسمئة كتاب؟ والذي هو في الحقيقة أهمّ, وأدوم, وأنبل مشروع كان سيكون.
وقد كنت, كمواطن قسنطيني -أحسب نفسي على المثقفين- أتمنى أن تترجم, وتنشر المؤلفات المكتوبة بلغات أجنبية والتي خلفها المعمرون وراءهم سنة 1962, وخاصة تلك المخطوطات العبرية, والتي يعود تاريخ بعضها إلى سنوات دخول اليهود إلى المدينة في القرن السادس عشر, هاربين بحياتهم من محاكم التفتيش وآلة التقتيل الإسبانية في الأندلس الضائعة, ويقال إن تلك المخطوطات تعدّ بالآلاف, وتدور في غالبيتها حول تاريخ المدينة, والجزائر ككل.
قسنطينة عاصمة للثقافة العربية كان حدثا مميزا في تاريخ هذه المدينة, وإن كان هناك نقائص, خاصة في الشق الثقافي, فلأن العروس لم تتحضر ثقافيا (من التحضير, وليس الحضارة) قبل العرس, والسؤال الذي ينبغي أن نجيب عنه, ليس هذا, هل نجحت التظاهرة أم فشلت؟

إنما هو, ماذا سنفعل الآن؟ وكيف علينا أن نتصرف حتى نتقي الفشل القادم؟

الأحد، 13 مارس 2016

هن: بقلم شوقي ريغي.

لم أضع يوما حدّا بين ما هو أنثوي وذكوري عندما يتعلق الأمر بالإبداع, النص الأدبي نص إنساني يخضع إلى كثير من المعايير الجمالية ليس من بينها جنس, أو لون صاحبه, أما هذه التقسيمات سواء جاء الأمر من جهته أو من جهتها, فهي في نظري إما محاولات لتقزيم الشواعر, وجعلهن دائما في مرتبة ثانية, وإما العكس تماما محاولة للتضييق رقع المنافسة للحصول على فرص أكبر للبروز, والظهور على الساحة لكن ما دفعني لتخصيص هذه المساحة لهن هو من باب الاحتفاء بهن, في يومهن العالمي, فكلّ عام, ونساء الجزائر مبدعات في شتى الميادين.
هي  
أحلام مستغانمي, أميرة الكلام, الشاعرة التي دوخت بكلماتها قراءها, وأسكنتهم كزهر اللوز أبعد, أحلام التي لا تعرّف, ولا توضع في إطار, الظاهرة الأدبية الجزائرية التي خرقت حدود الوطن, وأسرت قلوب المئات بأسلوبها, ولغتها الانزياحية, هي التي جعلت المفردات تقف أمام المرآة, وترشّ على وجهها مساحيق التجميل في انتظار دعوة من قلمها إلى العرس اللغوي المقيم في نثرها, وشعرها, وهي التي تعرف كيف تتوج أبسط العبارات بتاج السحر الذي لا يتقن طقوسه إلا الكبار.
لأني رفضت الدروب القصيرة
وأعلنت رغم الجميع التحدّي
وأنّي سأمضي
لأعماق بحر بدون قرار
لعلّي يوماً
أحطّم عاجية الشهريار
أحرّر من قبضتيه الجواري
لعلّي يا موطني رغم قهرك
أعود بلؤلؤة من بحاري
...
لأنّي صرخت أريد الحياة
لأنّي وقفت أمام الغزاة
قراصنة البحر ثارت عليّ
تحاصر كل سبيل إليّ
تمزق كلّ شراع لدي
...
.
ولكنني رغم كلّ اغترابي
سأبقى على مهرة من عذابي
وأزرع في العمر ضوء الشباب
وعند بداية كلّ احتراق
أموت أنا ويظلّ الحريق

وهي
نسيمة بوصلاح, القطرس الذي يحلّق في سماء الشعر, لا تكتب قصائد, بل معارك, عندما تلج عالمها الشعري تورطك شئت أم أبيت في صراعاتها, تملؤك من الهواجس, والريبة, إنها قصائد بأعصاب مشدودة, تحسّ أنها ستنفجر, أو ستستلّ سكينا, في قصائدها مطارات, الكثير منها, إنها تحيا بين بين, ممزقة, بين طموحها, ووطنها, الوطن الذي هو سجن من الداخل, وجنة من الخارج, تكتب على نسق واحد تقريبا رغم طول تجربتها الشعرية, لم يتغير منه إلا البناء الموسيقي الذي راح يهدأ, حتّى أنّها نظمت آخر قصائدها على العمود, واستعارت عن وجهها المكشوف وسط المعارك, بالأقنعة, فهي مريم مرة, ومرة نجمة بنت الحسين, 

المطارُ مُكَاشَفَةٌ شَاسِعَهْ ...
بِبَالِ الخرائطِ مَشْرُوعُ تِيهٍ،
وبردُ الحنينِ..،
جوازٌ لِسَفْرَاتِنَا الرَّادِعَهْ ...
ولا شيءَ غيرَ الأُفولِ المعلَّقِ فوقَ الغيومْ ..،
وغيرَ خُطانا التي أنكرتْ حَيَّنَا،
حينَ أوحَى لها ظِلُّ تلك المسافةِ أن تَتْبَعَهْ ...
صديقي الذي..،
تَعَرَّتْ أساريرُهُ الدَّامِعَهْ ..،
لم يَعُدْ مُمْكِنًا،
تقاذَفَهُ اللغوُ والطائراتُ..،
ومكرُ الـمَنَافي..،
وفزَّاعَةُ الحُلْمِ والأقْنِعَهْ...
صديقي الذي .،
اقْتَرَفَتْهُ الحقائبُ والأَمْتِعَهْ..،
صارَ مثلَ البريدِ الذي لا يجيءْ..،
مُمْعِنًا في حدودِ الخُرافةِ،
في حدودِ اللغاتِ،
في حدودِ أحاجي الهوى الموجِعَهْ...
صديقي الذي ..،
تنامُ على خدِّهِ زَوْبَعَهْ..،
كانَ يَوْمًا هُنَا،
فَرَّخَتْ في خُطَاهُ الجِهَاتُ،
فَصَعَّرَ للرّيحِ والطَّيِّبِينَ،
وأشعلَ في يُتْمِهِ عَتْمَةً،
لأقرأَ كفَّ اللغاتِ الغريبةِ في دمعهِ..،
ثم أبكي مَعَهَ....
وهي
حسناء بروش, أميرة المجاز, الفيلسوفة,  قد تبدو قصائدها غائرة المعنى, وغامضة, لكنها قصائد واعية تسافر بعيدا في العالم اللامادي, عالم الروح, والوجدان, قصائد حسناء أرستقراطيات متكبرة, إنها المساءلات الكامنة في الوعي البشري القصي, قد لا تتنازل لأي قارئ, ولكنها حين تجد ذلك القارئ الذي لا يتوانى عن التطلّع إلى البياض, سيكتشف حتما ذلك العالم الحقيقي الكامن وراء المتناقضات والجمل الاستعراضية الباذخة الكثافة والثقافة.
ضِدَّان منِّي
يا أنَـا..
والضِّدُّ..
يمحُو الضِّدَّ..
كَي يتَمَايزَ
المعْنى حيَـالَهْ..
وأنَـا محوْته..
..مَا أنَـا...
مَاصِرتُ مَعْنَـاه ..
ولا مَعْناي
صَيَّرني احْتمَاله..
ضِدَّانِ مِنِّي..
غَيْر أنِّيَ..
لاَ أَؤُولُ إلَيْهِمَا
حِين النَّقِيض يُذَيِّل
المعْنَى النَّقِيضْ
وأنَا الشَّبيهُ..
أُقَيِّضُ المعْنَى
الشَّبِيهَ.. فَأيُّـنَا..
يُفْضَى
إليه بنَقْصِـه..
أَو أيُّنـَا ليْسَ
اكْتِمَالَـهْ..؟

وهي
حنين عمر, (متنبية) الجزائر, بحر التحدّي, بقاموسها المحيط, بطروحاتها الجريئة, وأدائها المستفز, إنها من بين قلّة تجاوزن الإحباط, وقهرن اليأس, ما زال نقع حوافر الخيل يتصاعد وراء جيش حروفها, ورائحة البارود الزكي جديدة تفوح من مقاطعها التي لا تهرم, ولا تنهزم.     
متى يستفيق العرب
سؤال يسائل أنفاسه
يهزّ التوترُ إحساسه
ولا من جواب

سؤال وصمت المدى يرتديه
فمن قد يجيب الذي لا يجاب
ومن يا بلاد العروبة ظل وفيا
بحق انتماء لشبر تراب

متى يستفيق العرب
سؤال يدور يدور يدور
ويتعب من دوران المكان
ويتعب من دوران الزمان
ويتعب من دوران الغياب

سؤال غبي
أحاول إطلاق يأسي عليه
وقتله كي يستريح اكتئابي
ولما يموت
أحاول تجفيفه كالزهور
وتحنيطه في ثنايا كتاب
ولكنه
يتعفن أكثر
ويصبح إلحاح صوته أكبر
ويجمع حوله الف سؤال
وكل سؤال قطيع ذئاب
وما بين ناب وناب وناب
وما بين تذكرة للمجيء
وتذكرة للبقاء
وتذكرة للذهاب
تنادي شرايين نزفي
تنادي مساءات خوفي
ينادي العذاب
متى يستفيق العرب

وهي
رقية لعوير, الشاعرة التي بعثت رابعة العدوية من رقدتها, تلك التي طلقت في قصائدها كل ما هو مادي, وكل ما هو جسد, لتحيي ذلك الارتباط الغيبي بحبيب ولا ككل الأحبة, تحاول رقية أن تحلّق بالقارئ إلى عالمها المثالي, على إيقاعاتها الهادئة, وصورها الهامسة, تحاول أن تنسج عالما بلا حروب ولا شياطين, إنها بحقّ ملاك شواعر الجزائر,   

أدمت دموعي مقلتي
والخوف منك يميت قلبي سيدي
ضاقت بي الدنيا بما وسعت
فهل لي من مجيب ؟
ألغيت كل حنان قلبي
وعصرت عقلي كل عقلي
وأدرت ظهري للحياة
يؤوسة
وكئيبة
ومملة
ضاقت بي الدنيا بما وسعت
فهل لي من قريب ؟
عشت الدمار
وعشت  أهوال الحياة بكل حلة
ومضيت أبحث عن رقية
كل هذا العمر أبحث
لأرى السراب
أرى العذاب يلفني في كل مرة
ومشيت عمرا محزنا
وتركت آثار العذاب تجر فكري
ضاقت بي الدنيا بما وسعت
فهل لي من قريب ؟
يا سيدي
وهي
مفيدة زغدود امبارك, (نزارة) الجزائر, تكتب, وكأنها ترقص, تكتب, وكأنها طفلة تلعب, تأسر القارئ برشاقتها, بأسلوبها غير الاعتيادي, بمشاغبتها, بانطلاقها, ومشاعرها الصادقة, وبمحاولاتها الدائمة الدؤوبة لخلخلة وتحريك العمود الموروث الجامد, وبقدرتها على الامتداد, والسير مسافات بعيدة دون ملل, ودون عثرات.  

أتدرين لم أبكي ؟
لأنّ العمرَ لا يكفي لأحضنكِ
و لا يكفي لكي أُمضي
على صدري أناملكِ
و كي أسقيكِ من لَهَفي
و كي للرّوح أُرْسلكْ
و أذبَل فيكْ كالكلمات
أرسمَ فيّ ساحلكِ
و أقتلَ فيّ هذا الشّوق
كي أُرخي جدائلكِ
و أقتلَ فيّ هذا القلبَ
يكبرُ فيّ حاملكِ
وأقتلَ فيّ هذا الحب
يمضي كي يُسائلك
ستدرين لم أبكي
إذا عندي
فقط تدرين منزلكِ

أحبّ مدينة تدعى جدائلكِ
أحبّ قصيدة تدعى:
ستأتينَ
و أبقى في حدائقكِ
أحبّ فراشةً تدُعى
قسنطينة
و أبكي ملءَ قُبلتها
إذا غادرتها يوما
فلا تبقى و تبقينَ
على صدري كرعشتِه
و في حلمي كوردتِه
و في الأحشاء سكّينا
وهي الخالدية جاب الله, برومنسيتها التي تحرّك الجماد,  قصائدها مرايا, يسقط عليها الموات والأشياء فتنعكس على صفحتها حيّة متفاعلة, تتحرّك, تتآمر, تفضح, وتحيك الدسائس,  شعر الخالدية لا ينطلق من فراغ, ولا يهوي إليه, شعرها رؤى, وقراءات جديدة لكل ما تزدريه الأعين المسطحة,

جمادٌ
وثمّةَ شيءٌ أنا لا أراهْ
يحاصرُ وجهيْ
و يغلق كلَّ الممرات في داخلي
و أصحو
تُمزّقني الذكريات التي لا مذاق لها
و تفتح جرحاً أنا ما عرفتُ سواهْ
و أمضي
مواسمَ ملحٍ بأكملها تستفزُّ دمي
و تَلُوكُ حياتي
فيفقد وجهي مداهْ
جمادٌ
تتاجرُ بي أمسياتٌ من البرد و السّهدِ
ثمّ تُخلِّف قلبي وحيداً أضاع هداهْ
و أذكر حين احتواني المساءُ
و غيّبني الانتظار طويلاً
أنا!.. لا .. أنا!
و البقيّة تأتي إذا ما يُظلّل جُرحي سماهْ
و خلف الحدود التي أوغلتْ في التلاشي
وقفنا كلانا..
نواصل كذبتنا بكثيرٍ من الصدقِ
و الخوفِ يوم اعتراهْ
جمادٌ
و ليلٌ أطلَّ على دمعتي
و رأى مُهَجاً شارداتٍ
و يأسٌ تجمّلَ بالصَّبرِ حتى أقاصي رؤاهْ
تُقشّرُ أفراحنا هذه الانكساراتْ
و تلهث مثل الذئاب وراء المساءاتْ
ووحدي أمرّرُ كفّي على صبوتي ليُسيّجَ وردي شذاهْ
يشقُ البياضُ طريقه نحوي
و يجثو على ركبتي الكبرياءْ
أوسِّدُ هذا الفضاءَ ذراعي
و أصلبُ قامتكَ المستحيلةَ
عَلَّ الجمادَ يُلملِمُ وجه السماءْ
على مهلكَ الآن يستيقظُ الشوقُ
يَمْشِي إليَّ
يُفخّخ كلَّ الدروبِ
و يهزأ بالصبرِ و الدمعِ و الأغنياتْ
بنورسةٍ لم تعد تشبه الصحوَ مثلي
وتُشعلُ في غفلةِ الحزنِ
حُلْما يعودُ صباهْ!
وهي الوازنة بخوش, نجاح حدّة, كنزة مباركي, سمية محنّش, و حليمة قطاي, وهي, وهي, كثيرات, نجمات يضئن سماء الشعر في بلدي, فعذرا ألف عذر للوات حرمني ضيق هذا الهامش من الحديث عنهن, أو  قصرا, أو  جهلا, كلّ يوم, وأنتن أعياد الجزائر وأفراحها.



* ملاحظة, هذا الترتيب عفوي ليس من ورائه قصد أو تمييز.