الاثنين، 1 يوليو 2019

كلمة ألقيت بمناسبة اليوم العالمي للعيش معا بسلام، بقاعة المحاضرات لقصر الثقافة مالك حداد قسنطينة الجزائر


بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسوله الكريم.
يسعدني أن أقف بينكم محاضرا أو شاعرا أو عوانا بين ذلك، في هذا اليوم الأغر من هذا الشهر الأغر، اليوم الدولي للعيش معا بسلام، يوم 16 ابريل الذي وافق هذه السنة اليوم 11 رمضان.
هذا اليوم الذي أعلنته الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب قرارها 72/130 يومًا عالميًا للعيش معًا في سلام، وأكدت أن يومًا كهذا هو السبيل لتعبئة جهود المجتمع الدولي لتعزيز السلام والتسامح والتضامن والتفاهم والتكافل، والإعراب عن رغبة أفراد المجتمع في العيش والعمل معًاً، متحدين على اختلافاتهم لبناء عالم أفضل.
هذا اليوم، الذي من حق كل جزائري أن يفتخر به ويعتز مهما كان لونه السياسي أو توجهه الثقافي أو طبقته الاجتماعية، فهو اليوم الذي صدّرنا فيه إلى العالم تجربة الجزائر، وعبرة أيام عصيبة عاشتها بلادنا قبل سنوات، خلاصتها أن الاختلاف الذي يبني الحضارات ويصنع مجد الأمم إذا كان قوامه، التكامل والتثاقف، والحوار، والتفتح هو نفسه قد يصير نقمة وكارثة كبرى إذا تحول إلى خلاف وقام على نبد الآخر، وشيطنته، والتقوقع بمعزل عنه.

لا يحتاج الإنسان إلى كثير من التأمل ليدرك قيمة الاختلاف في المجتمعات، فالاختلاف أصل الإبداع، ولولا اختلاف الفنانين والأدباء لما أنتجوا لنا الروائع الأدبية والتحف الفنية، لا يحتاج الإنسان إلى كثير من النظر ليدرك أن لا قيمة ليد كل أصابعها سبابات أو إبهامات، ولا تصلح سنة كل فصولها أربعة أو شتاءات، لا نحتاج إلى تفكير عميق لنعرف أي كائن كنا سنكون لو كانت كل أطرافنا قوائما، أو بعبارة أبسط، هل سيصلح فريق كرة لو كان كل لاعبيه حراس مرمى، حتى لو كانوا حراس مرمى جيدين، وهل ستصل السفينة لو كان كل طاقمها ربابين أو قباطنة مهرة؟
خلق الله الناس ببصمات أصابع مختلفة، وذبذبات صوتية تميز كل فرد، فلماذا نتقبل الاختلاف في أشكالنا وألواننا وأصواتنا، ومهننا ولا نتقبله في أفكارنا ومعتقداتنا مع إن اختلافي عنك فكريا هو ما يميزك، ويعطيك خصوصيتك، ولقاؤك بإنسان يفكر بطريقة مختلفة عنك، وينظر للأمور من زاوية مغايرة هو سبيلك الوحيد للنقد الذاتي الذي لا يتقدم الإنسان خطوة واحدة إلى الأمام في غيابه، وهو ما يقرر متى تلتزم بموقفك وتتمسك به، ومتى عليك أن تتراجع خطوة لتعيد مراجعة نفسك وحساباتك وآرائك.
وكما هو معلوم فإن الآراء والأحكام تثرى بالحوار والنقاش الهادئ وتعزز تبادل الأفكار والمعلومات وتستخدم المنطق والبرهان وتسلسل الحقائق، أما إذا تمترس حول احتكار الحقيقة يتحول الرأي إلى تعصب أعمى لا يرى أي طرف فيه إلا نفسه ويتحول النقاش إلى جدل عقيم.
يقول الحق عز وجل في محكم تنزيله بعد بسم الله الرحمن الرحيم «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير».
لقد لخصت هذه العبارة كل شيء، لتعارفوا، إنها الحكمة الإلهية التي خلقنا مختلفين لأجلها، وهذا ما ذهب إليه علماء الاجتماع، وأجمعوا عليه، إن الطريقة المثلى للتعامل مع الاختلاف والحؤول دون تحوله إلى خلاف وصراع وصدام وهذا ما لخصته الآية الكريمة، فعندما نعرف الآخر، ونفهم أسبابه ونستقصي ظروفه ونقاسمه أحلامه سننتهي بتقبله، والعكس صحيح، التحجر ورفض الآخر، والانغماس في الأنا هو سبب العداء والتطرف وكل المآسي التي شهدها ويشهدها العالم، فالعلم لا يلد الخطيئة، والمآسي لا تجيء من نسل المعرفة، بل الجهل، ومنه الجهل بالآخر هو سبب المآسي السابقة ويمكنني الجزم بالقول إنه سيكون سبب المآسي اللاحقة.
يقول الحق جل وعلا بعد بسم الله الرحمن الرحيم "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة." ويقول رسوله الكريم "اختلاف أمتي رحمة" ونحن في الجزائر نفتخر بأن بلدنا قارة فيه ما في الجغرافيا من تضاريس ومناخات، وهو قارة أيضا بتنوعه البشري والثقافي، ولو تعاملنا مع هذا التنوع البشري التعامل الصائب، ونظرنا إليه النظرة السليمة، لحققنا المعجزات بتكاملنا واجتماعنا حول الهدف الأسمى. وهذا ما أثبته التاريخ في العالم كله، والجزائر على وجه الخصوص.
لقد نجح الجزائريون في طرد المستعمرين على مر التاريخ عندما نسوا خلافاتهم والتفوا حول ما يجمعهم، ومنذ ماس اينيسا ويوبا ويوغرطا إلى العربي بن مهيدي وعميروش وسي الحواس، كان هذا الدرس الأكبر الذي حاول التاريخ أن يعلمنا إياه. وقد بدأت الثورات المسلحة في الجزائر منذ اللحظة التي وطئت فيها قدم أول مستدمر ترابها، ولم تتوقف إلى 1962 فلماذا فشلت جميعا فيما حققته ثورة نوفمبر؟
لا يوجد تفسيرات كثيرة لهذا الأمر، التفسير الوحيد هو أن الثورات السابقة كلها كانت جزئية جهوية شملت مناطق ومدنا دون أخرى، أما ثورة نوفمبر فقد هزت البلد من الشرق للغرب، ومن الشمال للجنوب، فكان النصر حليفها، وأضحت مرجعية عند الشعوب المناضلة من أجل حرياتها وكرامتها وتقرير مصيرها.
وقد فشلت الماركسية فشلا ذريعا في معاقل المجتمعات التي تبنتها، كالصين، والاتحاد السوفييتي، وهذا لأن الشيوعية الماركسية جاءت بخلاف سنة الله في خلقه فحاولت أن تجعل البشر على قلب رجل واحد، وهذا أمر لا يخدم التطور والرقي حيث قضت على المنافسة، وحطمت طموحات الذين يسعون للنجاح والتفوق، وساوت بين المجتهد المخلص والمتواكل الكسول، وحاولت أن تخنق الاختلاف وتضيق على سنة كونية وقانون حيوي، وهذا التضييق لم يكن سوى تمهيد لانفجارها وانهيارها.
الجزائر وبقدر ما هي بهية ومتألقة بشعبها وأرضها بقدر ما هي أمانة ثقيلة حملها الأجداد منذ ماسينيسا إلى العربي بن مهيدي على أكتافنا لنحافظ عليها وندفع بها قدما إلى مصاف الأمم العظيمة المزدهرة، ولتحقيق ها المسعى علينا أن نعتد بتنوعنا ولنضع نصب أعيننا أن اختلافاتنا مهما اتسعت وتعمقت فما يجمعنا ويوحدنا أكبر بكثير، تجمعنا الجزائر والمصير المشترك ودماء الشهداء وفلسطين الحبيبة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته