الأحد، 7 ديسمبر 2014




صلاة لكي ينزل المطر, بقلم شوقي ريغي.
صلاة لكي ينزل المطر, هو العنوان الذي اختاره الشاعر مصعب تقي الدين لباكورة أعماله الشعرية, والتي تراوحت في شكلها بين العمودي, وشعر التفعيلة, يحتل الكامل وتفعيلته (متفاعلن) الصدارة من حيث الشيوع في الديوان بثلاث عشرة قصيدة, ست منها على العمود, يليه الوافر وتفعيلته (مفاعلتن) بإحدى عشر قصيدة, منها ثلاث على العمود وقصيدة مزج فيها الجنسين, ثم يليه بحر البسيط بأربع قصائد, ثم قصيدتان واحدة على تفعيلة الرمل (فاعلاتن), والأخرى على تفعيلة المتدارك (فاعلن).
صلاة لكي ينزل المطر, عنوان يحمل معنى الانتظار والرجاء, ولكنه مواري, يظهر غير ما يبطن, فالمنتظَر هو المطر بكل رمزيته, سخائه, وطهارته, والانتظار يتم عبر الصلاة, رمز القداسة والطمأنينة, والإيمان. وجود هذه الرموز بهذه الكثافة يحيل إلى الإشراق, والأمل, بينما الشاعر يقصد حالة الانتظار نفسها, فالمطر لم يحن بعد, الجفاف, والقحط هو السائد والواقع, وبالفعل تغلف كتابات تقي الدين نظرة تشاؤمية وظلامية وكأنها امتداد للقائل:
غير مُجد في ملّتي واعتقادي
نوح باك, ولا ترنم شادي
وشبيه صوت النعي إذا قيس
بصوت البشير في كل نادي
وهم كثيرون من بن الرومي, وأبي العتاهية, إلى فؤاد نجم, وأحمد بخيت, مرورا بالسياب, وبلند, وشعراء آخرين عايشوا على مر التاريخ أزمات هذا الوطن الممتد من العراق إلى الصحراء الغربية.
الصلاة هي أن يدعو الإنسان قوة أعظم منه ويرجوها ويتضرع لها حتى تحقق أمانيه, فالشاعر لا يملك قوة التغيير في يديه, إنه ضعيف, وعاجز, لا يملك إلا قلبا صادقا ولسانا, لكننا إذا تتبعنا هذه المفردة خلال الديوان, نرى أن صلاة تقي الدين ليست تلك التي يقصدها الرسول صلى الله عليه وسلم, وهو يقول (أرحنا بها يا بلال), صلاة تقي الدين ليست مريحة على العكس, إنها مؤلمة, جارحة, وكأنها تقام فوق بساط من الشوك, والقلق:
لم يكن في كناناتهم غير خبز.. ومسبحة.. وسلاح قديم.. وشمع أمل/
دخلوا الكهف آخرهم دمعهم/
و مضوا في صلاتهم المحزنة
...
أولسنا هنا منذ بدء خليقتنا ميتين؟؟/
إنّ هذا المدى مدفن فيه نرقب أجداثنا/
ونصلي لتخمد كفّ الرّدى بعض أنفاسنا المحزنة/
ضاقت الأمكنة/
...
أنا القنديل يحرس وجه طفل/
يصلـــي، حوله الليل الحزين/
ويتلو ذكر يوسف مثل رؤيـا/
تراوده إذا ارتخــــت الجفون/
...
أحيانا يشبهها بالنار, فهي صلاة لا تقام, وإنما تشعل, طلبا للموت, والخلاص الذي لا يأتي:
لَكِنَّمـا الموْتُ حُـلْمٌ لسْــتَ تُـدْركُـهُ/
تُذْكـي الصَّلاةَ ليَأْتي ثُـمَّ لا تَجِــدُ/
...
وأحيانا يشبهها بالحرب:
واكتبي فوق وجه البحيرات بالدمع عن فتية/
لبثوا في صلاتهم المستحيلة سبعاً عجافاً/
وربك أعلم كم لبثوا/
سيقولون: كانوا قرابة مليون ثائر/
جنحوا للذخائر/
لم يبالوا بشمس خيالاتها لم تعد ممكنه/
...
ونصلي لتخمد كفّ الرّدى بعض أنفاسنا المحزنة/ إنها نفس لام التعليل في العنوان, لكي ينزل, أو ليخمد الردى بعض أنفاسنا, إنه اعتراف أكيد, فحتى المطر, قطرات الماء التي تنزل من السماء, الخصب, النماء, الحياة, التجدد, البعث, الرحمة, والسكينة, إنه هنا, في هذا العنوان, رمز لأشياء أخرى, إنه اللعنة, والانتقام, إنه المطر الذي يتشكل سيولا تجرف وتعري وتنتقم بيد عمياء لا تفرق بين الجاني والضحية, وبين العساكر والحوامل والصبية.
أمطري/
أغرقينا ولا ترأفي بالحوامل والصبية الحالمين/
أرسلي السيل جيشا يمزقنا/
لا يهم الذي مات حتى يموت الذي قتل الحلم فينا/
وجرعنا قهره من سنين/
أولسنا هنا منذ بدء خليقتنا ميتين؟؟
...
المطر الذي صنع ذات صدفة موعده مع محبوبته, حين مسح عن وجهها قطراته, ومنحها معطفه, ووقف يحاول تفسير الصدفة التي لم يجد لها من حل إلا أن يزج بها أيضا في حربه على واقعه المرير, فجعل لقاءهما الأول لقاءهما الأخير, وزج بعواطفه, وحبيبته, والمطر, وباقة الورد, كل ذلك في دوامة الصراع الطبقي, هو الذي يسكن شارعا لا ورد ينمو فيه.. لا أنثى تطل بوجهها من شرفة من دون أن يلقي إليها عابر نظرات عشق....أو يشير بأصبعيه لرقم هاتفها.. و يغمز ! إنه مطر شتاء الوحدة الطويل, المطر الذي لا يسقي الزرع ولا يروي الأحياء, بل هو دموع السماء الحزينة المالحة, إنه البرد, والهدوء المخيف/ وحدك المنسي يبكي حالك الغيم إذا ما حزن الغيم وأمطر.
يغلب على أشعار تقي الدين التوجه السياسي والإيديولوجي, فهو يقف موقف المعارض, الرافض, تلك الصلاة هي جهاد يومي, دام, وشاق, بما في الجهاد من معاني, منه يقتبس القوافي, ويسترق الصور, تفاصيله تنعكس على حسه المرهف, وروحه الشعرية الرقيقة, ولكنها تنزل به إلى الخطابية أحيانا.
وأهدينا قصائدنا قرابيناً إلى الحكام تحكي مجد من راحوا/
وأجهدنا الحروف لتمدح الوطن الملخص في يد الحزب الوحيد وما بهذا الأفق إصلاح/
ضمائرنا معطلة, ولو تصحوا سنهدي الحرف ربا لا يقدره. يصبّر شعبنا بخطابه المعهود – يا وطني قريبا سوف ترتاح-
...
وتتغذى من الفضيحة أحيانا أخرى لتستمر, وتستطرد:
وافضحي ما تخفى بأروقة القائمين على العلم الحر... والميّتين على الأرصفة/
فالدروب التي رسمتها الخطى لم تزل واقفة/
ولها من بقايا القوافل سر تحاول أن تكشفه/
عن خطىً أسّست وطنا من هلام/
يتشكّل حسب جميع القوالب, يسكب ما جادت الأرض في جيب من جاهدوا بالوساطة وانتصروا/
...
نعم من حق الشاعر أن يهدم العالم, أن يحطمه, ويأنف عن ترميمه, وينأى بقلمه عن محاولات إطالة أجل المحسوم مسبقا, لكن عليه أن يطالعنا في المقابل بعالمه الخاص, عالمه الجديد, عليه أن يكون هو, بما هو معول للهدم يضرب السائد والواقع بلا هوادة, عليه أيضا أن يكون ساعدا للبناء, ونورا في الطريق نحو المأمول والمرتجى, لكن هذا العالم الجديد غير واضح في هذه المجموعة على الأقل, وإن كان كذلك فهو أكثر سوادا من الواقع الأسود, إنه عالم من الانتقام, والخراب, عالم لأرامل جدد, ويتامى آخرين, وموعد لأحزان ودموع وآلام ستغرق هذا الوطن المنكوب أكثر, صلاة لكي ينزل المطر, أو حرب حتى يتم العقاب, لا فرق, إنها الوحشية, هذا المذهب الجديد الذي يؤسس له دون وعي الجيل الجديد من شعراء الجزائر, لقد قال المرحوم الطاهر وطار مرة وهو يتحدث عن أحد الشعراء الشباب, (قصائد هذا الجيل إرهابية), إنه جيل يقدم الهدم, والفوضى كحل, أو كنهاية في حد ذاتها, نهاية لائقة لكلّ هذا التمهيد والبدايات.
ينتهي الحلم بين الوسائد في رقصة الكامسوترا الأخيرة
ثم تموت الحمامه
كلمسة طفل لسنبلة يدرك القلب أن استقامتها لن تطول
هذا هو, لا فرق بين الحب والموت, بين اليوم, والأمس, والغد, لا فرق بين الوجع في الجزائر, والوجع في غزة, ومصر, شعراء هذا الجيل ضحايا المرحلة, السواد العربي, إنهم غرقى في أمطار الشتاء العربي, دوامة من الأكاذيب, والتضليل, والنزاعات التي تشتعل باسم مبادئ وأفكار ولكنها في الحقيقة مجرد طموحات أنانية وشخصية لا تراعي في حركاتها إلا المصالح الخاصة, الشعراء ينظرون إلى الأفق وفيه لافتة موحّدة تقول أن مشاكلنا أعقد من أن يوجد لها حلّ, وفي الأرض ذنوب أكبر من أن يغسلها طوفان واحد.
وتصيح : يا أرض الشقاء خذيهما ...
فلربما..
أبصرتِ جوع الطيبين
عيناي؟ هاتان المكحلتان بالهمّ القديم ؟
...
الشعب نمل منكرُ/
هل بعد هذا القهر قهر أكثرُ؟/
...
إنّ هاذي الأرض كانت والسماء/
كقبورٍ في ثراها العمر يذوي
...
العالم بالنسبة إلى تقي الدين, طغمة حاكمة, تسحَق وتلهو بالمصائر, وتستأثر لنفسها بالثروة, وأمم من الموتى... موتى يسيرون, ويبصرون, ويعملون, ويتحمّلون:
وهذا الصمت موتٌ
والبلايا عندكم لا تصغرُ
إن قلتها ستموت شنقا.. إنما
إن لم تقلها متّ مقهورا إذن؟؟
قلها ومت!
هل بعد هذا الموت موت أكبرُ؟؟
إنه يصل إلى إرساء توراة جديدة, لكنها تشبه العالم الذي يعدّه, ويبنيه في قصائده, إنها توراة الدم والثأر, توراة موقعة بالرصاص والقنابل.
-إن يصفعوك أدر لهم خدا لتُصفع مرة أخرى...وسامح من أساء-
السيف وحده أصبح القديس
أسّس شرعة أخرى
بأسفار لها: خلقٌ, وتكوينٌ, وطوفان, ورؤيا... وانتصار للدماء
...
واكتب بسيفك
- بالغراد -
- بالهاون -
- بالقسام -
أجمل فقرة لكتابك  - العهد الأخير -
حتى يردده الجياع الخائفون النائمون على الحصير

عند هذا الحد أسكت, لأترك شاعرنا الجريء, صاحب القلم الشجاع, يدوّن العهد الأخير في ظلال شجرة وارفة على ضفة غد أجمل, غد فيه للأمل, والحب, والصداقة, والشجاعة مكان, بعدما ضاعت في مادية الواقع, وجوّه المظلم, فغابت بذلك عن معاجم الشعراء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق